Copyright © 2007 ِAli Darwish. All Rights Reserved.

Just remember where you have read it first!

Connectors, Controls and Dissimulation in Modern Arabic Translation

Ali Darwish
4 July 2007

Abstract

American poet T.S. Eliot (1888-1965) once said, "The ordinary person talks English, but only few people in every generation can write it; and upon this deliberate collaboration between a great many people talking a living language and a very few people writing it, the continuance and maintenance of a language depends". This statement has universal applicability to all living languages and rings true in the language of Arabic media today.

This article looks at how the Arabic media are undermining this collaboration between those who speak the language and those who can write it through dissimulative translation practices where control of meaning is largely lost.  


الروابط والضوابط والتحريف في الترجمة العربية المعاصرة
 (النسخة المطولة)

بقلم علي درويش

4 تموز يوليو 2007

فإن كنت كالطفل قد خفت من قبل من الظلام، فلم تر شيئًا،
فقد أحضرت لك مصباحًا فلا تخف بعد الآن!
— السير جون دايفيز  (1569 - 1626)

يُحكى أن عمالقة اللغة العربية في القرن المنصرم اجتمعوا في مجمعٍ للغة العربية وراحوا يناقشون ويبحثون ويجادلون جلسات طوالاًُ في معنى كلمة (classic) ويحاولون وضع مقابل عربي لها. وفي سعيهم الدؤوب والحثيث للوصول إلى مصطلح دقيق يستوفي المعنى الأصلي حرصوا، كما ينبغي وتقتضي الأمانة العلمية في الترجمة، وكما فعل أسلافهم في الزمان الغابر أمثال أبي الترجمة العربية الأول اسحق بن حنين، وحنين بن اسحق، وقسطا بن لوقا البعلبكي، وثابت بن قرة الحراني، على فهم معنى ذلك المصطلح الجديد عليهم. فحاورا وداروا فلم يجدوا في حصيلتهم اللغوية الأجنبية، وكان معظمهم قد تتلمذ على أيدي معلمين من إرساليات فرنسية وبريطانية ودرسوا الآداب العالمية وكانوا على قدْر من المكنة والاطلاع، ولكن لم تكن عندهم لا شبكة انترنت ولا فضائيات عربية، فاتصلوا بمراكز لغوية وثقافية في فرنسا يستفسرون عن معنى كلمة (classic). وبعد أن تثبتوا من معناها، راحوا يتخبطون ويتباحثون فيما بينهم ويعتصرون أدمغتهم اللامعة بحثًا عن مقابل عربي لها فلم يجدوا ضالتهم فرسوا على تعريب المصطلح بـ (كلاسيكي) في بادئ الأمر. فمهدوا الطريق ورصفوا الأرصفة لديناميكي وتكتيكي ودراماتيكي وكيكي كيكي وغيرها من مهازل وسفسفات. ولمن يرد التعمق هنا، فإن أصـل (tactic) الذي تـــرده المعـاجم الأجنبيـة إلى اليونانيـة القديمة (taktikós) بمعنى الترتيب هو في الأصل مأخوذ عن اللفظ العــربي (تخت) من (التخت الموسيقي) و(العرش) و(السرير) و(الوعاء)، المعرب بدوره من اللفظ الفارسي (تخته) بمعنى (خشب).

التعاون اللغوي بين الإعلام والنخب المثقفة

ولا بد من الوقوف إجلالاً لهم على جهدهم وسعيهم للتثبت والتأكد من معنى مصطلح واحد ووضع مقابل عربي له. ولكن هذه الرواية تظهر أمرًا مخيفًا جدًا هو أن معظم أولئك المدعين آنذاك لم يكونوا سوى أقزام معرفتهم بلغتهم ضحلة وعلمهم بتراثهم أشد محلا. ولكنهم كانوا كإخوانهم اليوم في مجالات شتى أعضاء أندية مغلقة ونواد خاصة توافرت لهم واتفرت سبل الوصول إلى تلك المراكز والمناصب فعاثوا فيها خرابًا وفسادًا، كما تفعل النخب المستنخبة اليوم في الإعلام والصحافة والسياسة والأدب وغيرها من المجالات والمناشط بسبب الجهل والأمية في المقام الأول في مؤسسات ومنظمات وجمعيات تشدد على المهارات والكفاءات والمواهب، فلا تجد فيها إلا مواهب الجهل والأمية ومهازل يكتب المرء فيها موسوعات ومجلدات لا تنتهي. لقد ظلوا يستضيفونه خبيرًا في الشؤون الدولية في كل برنامج أو يكاد حتى خلناه الخبير الأوحد في العالم كله في هذا المجال، يهذي ويرعد ويرغي ويزبد وينفث ويتأفف. ثم اختفى فجأة، وبعد مدة ظهر ابنه في تلك الفضائية. هكذا تُستقطب المواهب والخبرات. ثم يحتجون فيها على توريث الحكم في بعض البلدان العربية، والتوريث والعشائرية والفساد متأصلة كلها فيهم. وكلما شاهدتُ تلك الفضائيات العربية التي تستقطب المواهب الفريدة بهذه الطريقة وغيرها، ومراكز تدريبها والمؤتمرات والمنتديات والندوات والمهرجانات التي تعقدها، لا يفارقني مشهد يحضرني دائمًا من فيلم (Enter the Dragon)، الذي سموه عندما عُرض للمرة الأولى (دخول التنين)، لمعلم الفنون القتالية الراحل بروس لي، يكشف فيه زعيم العصابة السيد هان للسيد روبر (بالباء المعجمة) (Mr Roper) عن عمليات تحضير المخدرات التي يديرها في جزيرته في سراديب[1] وحُجَرٍ تحت الأرض (والسرداب لا يكون إلا تحت الأرض بالطبع).

روبر:   أفيون! آه!

هان:    إننا نستثمر في الفساد، يا سيد روبر! تجارة الفساد مثل أي تجارة أخرى!

روبر:   نعم! قدم لزبائنك البضائع التي يحتاجونها ثم ارفع السعر قليلاً لحفز السوق فيزيد اعتماد زبائنك على بضاعتك. إنه قانون الاقتصاد!

هان:    نعم! وهنا نحفز حاجة أخرى! (مارَّيْن بمختبر لاختبار المخدرات على البشر)

هان:    أنت تعجب لماذا أتكشّف لك بهذا القدر!

روبر:   أنسى ما أراه بسهولة جدًا! ولكن لماذا إذًا؟

هان:    إني آمل أن تنضم إلينا وتمثلنا في الولايات المتحدة!

روبر:   الآن بدأت أفهم الغاية من هذه المباراة وهذا التنظيم كله! إنها طريقة عظيمة لتوظيف المواهب الجديدة!

ولا يستقطبون تلك "المواهب" فحسب، بل يوظفونها ويستثمرونها في الفساد اللغوي والفكري والاجتماعي والحضاري.

الاستثمار في الفساد

قالت له الغادة الحسناء في نهاية المقابلة: السؤال الأخير لك. ولم يكن يطرح عليها الأسئلة ولم يكن معهما أحد، بل كانت هي التي تحاوره وتسأله، فكيف يكون السؤال الأخير له؟ وقال موهوب آخر: "بهذا أعزاءنا المشاهدين نصل إلى نهاية نشرة الأخبار قدمناها لكم من قناة..."، فقدم لنا هذا الأحمق[2] نهاية النشرة أما النشرة فما زلنا بانتظار نهايتها. ولكنه في تقليد القرود أسقط اسم الموصول (التي)، كما يُسقط معظمهم ميم (مِن) المدغمة من (مما)، كالخراف والنعاج. (ماءءء أدى ... ماءءءء أسفر... ماءءء أوقع...). فلا يعرفون أن اللغة العربية لغة تحليلية تصريفية وأن اللغة الإنجليزية لغة لاصقة في الألفاظ والعبارات والجمل. ولا يعرفون أن اللغات "نشأت عازلة ثم تطورت فأصبحت إلصاقية، ثم ارتقت أخيرًا إلى تحليلية" (انظر دراسات في فقه اللغة للعلامة صبحي الصالح). ولكنهم يستمعون بشغف ولهفة إلى اقتراحات المستشرقين بشأن تغيير اللغة العربية وتراكيبها النحوية فتلقى هوى في عقولهم الهزيلة ونفسياتهم المريضة، فيؤثرون الارتداد والانكفاء والانكسار. ولمَ لا؟ ألم يتعودوا ذلك في المناحي الأخرى من وجودهم؟ (كل ما يتقدم خطوة يتزحلق خطوتين). ولعلنا هنا نعطيهم من الذكاء أكثر مما يستحقون، فقد يكون مجرد تقليد حزين أعمى طائش. ولما كان العالم كله ينحدر فكريًا في القرن الحادي والعشرين، فلا بد لنا أن نكون أول المنحدرين في تخلفٍ لم يسبقنا إليه أحد، بل هو "غير مسبوق" على حد قول أولئك المستلبين الأغبياء (unprecedented)، لأن (بوق) في (مسبوق) تساعد أبا القندين في تضخيم الصوت في تلك الأبواق الإعلامية (في قى رى رين غى يري مص بووق)!

un  = غير + precedented = مسبوق =unprecedented = غير مسبوق!

العربية في الإعلام بين التحليلية والإلصاقية:
بهذا نصل إلى نهاية نشرة الأخبار (التي) قدمناها لكم من قناة الأغبياء

مبدعة أخرى تسأل مطربة الأغنية الوطنية إبان العدوان الإسرائيلي على لبنان العام الماضي: "ولكن أودّ بداية أن أفهم منك موضوع التطوع. أنت متطوعة الآن في ما يجري ضد لبنان؟" فإذا بها دون أن تستشعر خللاً في منطقها فتستدرك، تحوّل مناضلة الأغنية إلى عميلة متواطئة ضد لبنان! ناهيك عن التعبير السخيف الذي طالما سمعناه على ألسنة السياسيين لاسيما في لبنان (اسمحوا لي بداية أن أرحب بكم فردًا فردًا...) في عادتهم في اللف والدوران والمواربة والمجاملات، فقد كان قصدها أن تقول (أنت متطوعة الآن ضد ما يجري في لبنان)، ولكن تلك هي المواهب التي يستثمرونها في ضرب المنطق عند المشاهدين ونسفه من أساسه.

وذو الجَهْلِ مَيْتٌ وهو ماشٍ على الثرى     يٌظَنُّ من الأحيــاءِ وهو عديمُ

مهازل وحماقات كثيرة منها الحديث اليوم في الإعلام العربي وغيره من المجالات التي تعتمد اللغة العربية وسيلة للتواصل عن "فرنسيين من أصول مغاربية" و"إرهابيين من أصول عربية" و"معتقلين من أصول مصرية"، وغير ذلك من تركيبات وتوليفات يدعي بعض "المتخصصين" في اللغة العربية بأنها إذا كانت لا تخالف القواعد النحوية فهي سليمة، ولكنها إذا خالفت المنطق فلا ضير في ذلك! والأصل في اللغة هو أسفل كل شيء وأسه وأساسه وأرومته. فكيف يكون للناس أكثر من أصل واحد؟ أوليس النسل كالشجرة ذات أصل وفروع؟ أصلها ثابت وفرعها في السماء؟ وهل رأيت شجرة ذات أصول متعددة؟ لا شك أن للترجمة الحرفية أثرها في الخيارات اللغوية عند المعاصرين العرب الذين يتتبعون الكلام الأصلي كلمةً وحرفًا ونقطة. فلا يستطيعون القول بكل بساطة (فرنسيون من أصل مغاربي) مثلاً. فالتبس الأمر عليهم فظنوا أن (origines) تعني (أصول)، على طريقة هومر سمسون، ولم يدركوا بحرفيتهم المقيتة أنها تعني (جذور) و(جدود) في هذا السياق. ولكنهم يحرصون على موافقة العدد معدوده، فكل واحد له أصل فهي إذًا أصول، كما يزعمون، إلا في كثير من لغطهم ولغوهم فتسمعهم يقولون (عدد من دبابات الاحتلال توغلت في قطاع غزة) و(عُثرت على كميات كبيرة من الأسلحة) وغير ذلك مما لا يوافق العدد معدوده، عند هؤلاء العباقرة الذين يقلدون اللغات الأجنبية ويطبقون قواعدها على اللغة العربية كالقرود والمهابيل (سوف نعود إلى هذه المسألة لاحقًا).

فرنسيون من أصول مغاربية؟

من أهم الأمور التي تغيب عن بال معظم الباحثين والمتخصصين والبشر عامة أن بإمكان الناس التحدث بلغتهم ولكن قلة قليلة منهم في أي جيل تستطيع الكتابة بها. هذه المقولة المقتبسة من حديثٍ للشاعر الناقد الأميركي تي إس إليوت خصّ به اللغة الإنجليزية في معرض انتقاده للشاعر الإنجليزي الشهير لورد بايرون، لا تسري على جميع اللغات قاطبة فحسب، بل تنطبق بشكل خاص على اللغة العربية في عصر الإعلام الهزيل والفضائيات المستلبة والصحافة المعلبة. فلو نظرنا إلى ظاهرة الأدب العربي المعاصر، كما يحلو الحديث عن الظواهر عندهم هذه الأيام، لوجدنا أن معظم الذين يدّعون في الأدب والإنشاء مكانة لا يعدو كونهم صعاليك صغارًا في عالم الإنشاء واللغة — أساليبهم مقتبسة وعباراتهم منحولة ومصطلحاتهم منقولة. إن كتبوا كانت جملهم مهزوزة ومنطقهم ضعيفًا لا حبكة فيه ولا ترابط ولا تماسك. اختفت الراوبط والضوابط، وصار الأديب والصحافي والشاعر والسياسي يتفوه بكلام مضعضع البنيان ومجاز مقترض من لغات أخرى. فحق عليهم قول فيلسوف الشعراء:

بنـي الآداب غرتكم قــديمًا       زخارف مثل زمزمـــة الذبابِ
وما شعـراؤكم إلا ذئـــاب       تلصــص في المدائح والسبابِ

فأساسيات اللغة و"أصولها" مفقودة عندهم وجل ما يكتبون مترجم مباشرة أو ممضوغ ومجتر! ثم تقوم لجان الأدب والشعر والإبداع بخلع الألقاب والجوائز والهدايا عليهم. فهاكم أديبة مكرّمة تقول لنا عن نجيب محفوظ: طوى رأسه ومات. ولم تسأل تلك اللجان الحمقاء كيف يطوى المرء رأسه، كأنه ورقة ملفوف؟ وتلك كاتبة مشهورة قلبت الدنيا على رؤوس الرجال بحق وبغير حق تقول:

أمسكتني أربع نساء من الفتوات، ذوات الأصابع الحديدية، قبضوا على ذراعي وساقي، وكتفوني مثل الدجاجة قبل الذبح، ثم قطعوا بالموسى الصدئ العضو الآثم الملعون، المخلوق بالطبيعة بين فخذي، وكانت أمي واقفة وراءهم ترمقني بابتسامة مريرة، تعرف أنهم يبترون من جسدي ما بتروه من جسدها وهي طفلة....

لا شك أن كاتبة هذا النص المقتطع من مقالة كبيرة أرادت أن تقول للقارئ إن النسوة الأربع كنّ قويات مستأسدات (bullies)، وهذا واضح في استخدمها للفظ (الفتوات) من (الفتوّة) و(ذوات الأصابع الحديدية). ولكنها انتقلت بلا مبرر ولا مسوغ لا نحويًا ولا بيانيًا ولا بلاغيًا ولا مجازيًا ولا منطقيًا من صيغة المؤنث إلى صيغة المذكر، فحولت أولئك النسوة (على ظلمهن وظلم المجتمع لها، وليس في ذلك أي جدل) إلى ذكور بشطب قلم كما قَطَعْنَ نَوْفَها[3] بحد سكين صدئة! ولا أظنها كانت تعقد شبهًا بين أولئك النسوة وبين الرجال في الظلم والعسف والاستبداد والسيطرة، ولا كانت تساوي بينهن وبينهم في اللفظ والصيغة على طريقة حركات التحرر النسائي في المجتمعات الناطقة بالإنجليزية التي يقلدها بعض المجاذيب والمختلين عقليًا في العالم العربي من نخبة مستنخبة وشعوب مستنمية ترقص على أنغام تقارير الأمم المتحدة السنوية وإيقاعات دراساتها التي يعدها عباقرة ومبدعون كأصحابنا في المجمع اللغوي المذكور في مطلع هذه المقالة، فيصابون بالارتجاج اللغوي والفكري، ويصبح (أخواتي وأخوتي) عنوان التقدم والتحرر والديمقراطية في المجالس البلدية والتشريعية (aprčs vous, madame)! فمن سخفهم ورقّة عقولهم أنهم يعتقدون بأن تقديم المرأة على الرجل لفظًا في النداء يعطيها فورًا حقها المشروع في الحرية والعدالة والمساواة. وكما يقول المثل، الكياسة ضرب من النفاق!

والطريف في الأمر هنا أن جميع حركات التحرر الوطني والاجتماعي والفكري في العالم قد تحولت في زمن المحل والضفادع إلى مجموعات لَبِرَةٍ جديدة طاب لها نعيم السلطة والحكم، لاسيما بعد انهيار المنظومة الاشتراكية فانتقلت إلى العولمة والغولمة أو ظلت "متخلفة عن الركب الحضاري تسير في عكس التيار وتغرد خارج السرب"، فتحولت إلى مصنفات إرهابية تُضطَهَدُ وتُطارَدُ في كل مكان، إلا حركات تحرر المرأة وتحريرها، فما زالت تشكل مصدرًا مهمًا لأرباب السياسة يمكن استغلاله لمآرب أخرى كتصدير "الديمقراطية" بفوهة مدفع، وتحقير الأمم الخانعة وتقريعها وتعييرها لهضمها حقوق المرأة واضطهادها والاستبداد بها، لا حبًا بالمرأة وإكرامًا لها وعطفًا عليها، بل لأنها مطية تمتطى (بلا معنى، بلا قافية، ومعذرةَ العِذَار[4]ِ؛ أو كما يقولون في الإنجليزية: pardon the pun) لأغراض أخرى. و"حَسْبُ الكريم مَذلةً ومَهانةً | ألاّ يزالَ إلى لئيمٍ يُطلَبُ". فيسارع أولئك المستثقفون إلى تبني الأشكال الصرفية والنحوية في اللغة الإنجليزية، كما أشرنا في مقالات سابقة، كلّما أمرهم آمر وزجرهم زاجر، فتتحقق المساواة بين الجنسين كوجبة سريعة، ويستريح المدفع! 

كل ما في الأمر هنا أن كاتبة المقطع المذكور استرخت من المقام[5] الفصيح وهبطت إلى المقام العامي في التعبير، فراحت تعبر في إنشائها المتطور والمبدع عن النساء بصيغة المذكر، فألغت المرأة التي ما فتئت تدافع عنها وما برحت تناضل من أجل حقوقها من القاموس اللغوي. وإنْ فتشت وبحثت وجدت أن هذا النمط من الإنشاء قد أصبح نموذجًا يحتذى وأسلوبًا يعتد به ومنهجًا يتبع وعلمًا يقتدى به. وليس في الأمر إلتفاف قصصي أو انعطاف فجائي "دراماتي" (dramatic twist)، بل ما نراه هو جهل باللغة وكسل وانعدام في الضوابط والروابط التي تكفل وضوح المعاني ودقة الدلالات والإشارات. وإن سلمنا جدلاً، كما يقولون، بأن تحوّلَ الكاتبة من صيغة المؤنث إلى صيغة المذكر كان أسلوبًا متعمدًا وتقنيةً مقصودةً في الإنشاء عندها، فهل كانت تعتقد بحقٍ أن قراءها كانوا يستطيعون إدراك مقاصدها من هذا الانتقال المزعوم؟ لا أظن، فليس ثمة ما يدعم هذا التصور في النص نفسه. ومن يرَ ذلك يوهمْ نفسه بما ليس في النص، ويخالف ما يعرف في القانون بمبدأ زوايا المستند الأربع.

ولو نظرتَ إلى التعبير (المخلوق بالطبيعة بين فخذيّ) لوجدت فيه تناقضًا مضحكًا. فالكاتبة تريد أن تقول لنا إن نَوْفَها قد نشأ بفعل الطبيعة، فهي لا تعترف بخالق، كما يبدو من هذا التعبير ومعطيات النص ذاته، وهي حرة فيما تريد، ولسنا هنا في معرض مناقشة هذا الأمر فهو لا يعنينا وليس موضوعنا، (فلو كانت تعترف بخالق لقالت "الذي خلقه الله"، أو إن لم تشأ أن تذكر اسم الله في هذا الجزء من وصفها لجسدها الذي تقدسه وتحزن عليه بحق، لقالت "المخلوق بين فخذي" دون حاجة إلى ذكر الطبيعة)، ولكنها تجمع بين (الخلق) و(الطبيعة)، وفعل (الخلق) هو بهذا المعنى مختص بالله، الخالق المبدع المبتكر (وخلَق الشيءَ أوجدهُ وأبدعهُ على غير مثالٍ سبق)، والطبيعة لا تخلق لأن الخلق يفترض وجود ذكاء ووعي وإرادة للخلق، والطبيعة حسب نظرية النشوء والترقي الداروينية لا تعي ذاتها ولا إرادة لها، بل تنشأ تلقائيًا من عناصر وتتبع قوانينها المادية، ويحدث البشر فيها ولا يخلقون. فإذا بها تضفي صفة الخلق على الطبيعة، فتقع في مطب التناقضات، فهي من جهة لا تعترف بخالق ومن جهة تعد الطبيعةَ هي الخالق! أما التعبير (الآثم الملعون) ففيه الأمر المضحك ذاته بالاقتران، فالإثم في الاصطلاح لا يكون إلا ذَنْبَ معصيةِ الخالق واللعنةُ في الاصطلاح كذلك لا تكون إلا من الله. ولا أظنها تسخر في استخدامها هذا التعبير، بل هو استعمال اعتباطي.  هذا كثير في مقطع قصير يتألف من 48 كلمة فقط، فما بالك لو أخضعت النص الكامل كله للتحليل المنطقي والتدقيق اللغوي؟ فهل تعجب؟        

وفي زمن المحل الفكري تشتد هذه الحماقات التي تصدر عن "أدباء مبدعين" و"شعراء مستفحلين"، و"صحافيين لامعين" ومترجمين أشد لمعانًا حتى يكاد يخطف أبصارهم من شدة الغرور والزهو والخيلاء. فها كم عاشق ريتا (يربي الأمل):

هنا، عند مُنْحَدَرات التلال، أمامَ الغروب وفُوَّهَة الوقت

قُرْبَ بساتينَ مقطوعةِ الظلِ،

نفعلُ ما يفعلُ السجناءُ،

وما يفعل العاطلون عن العمل:

نُرَبِّي الأملْ!

فحتى في "اقتباس" الألفاظ والعبارات من اللغات الأجنبية، وهنا من اللغة الإنجليزية، يخفق المبدعون في ترجمتها، فتبقى حرفية فسيفسائية تفكيكية (raise hope) عمياء بلا بصر ولا بصيرة، فلا يرى من (raise) إلاّ التربية والرعاية. ولكن كيف نربي الأمل في العربية؟ علام الاعتراض؟ نحن نربي الأمل ونرضعه رضاعة طبيعية أو من زجاجة أو من ثدي خادمة سريلانكية أو هندية. لا شك أن هذا هو إبداع شاعرنا العظيم. أم تراه يستلهم ويستوحي مشاعره وصوره من بيئة غريبة أو لغة أخرى؟ أم أنه يربي "القمل والسيبان" في رؤوس قرائه؟ ولكنّ هذا الشاعر المبجل يعوّل على طرافة النقل الحرفي في ألفاظه حتى يظن الناس أنه إبداع شعري أصلي، فغاية الشاعر أن يخرج عن المألوف كي يحدث وقعًا جميلاً بليغًا في نفس القارئ أو السامع. وما هو في الواقع إلا كلام مسلوخ ومنسوخ من مصادر أجنبية، يسهل رده إلى لغته الأصلية. فنسمع صدى الروائية الأميركية ماري جونسون في (بساتين مقطوعة الظل) (shadowless fields) في رواية (أودري) (Audrey).

Around the place the heat lay in wait: heat of wide, shadowless fields, where Haward's slaves toiled from morn to eve; heat of the great river, unstirred by any wind, hot and sleeping beneath the blazing sun; heat of sluggish creeks and of the marshes, shadeless as the fields. [Audrey, 1902, by Mary Johnson]

ولو تمعنا قليلاً في المعنى الشاعري لتلك الصورة التي رسمها لنا (بساتين مقطوعة الظل) لتساءلنا كيف تكون البساتين مقطوعة الظل وقت الغروب. أهي بسبب احتجاب الشمس خلف التلال وقد كادت تغيب (ونحن نفترض هنا أنها خلف التلال وقد لا تكون) أم لأنها بساتين يابسة أشجارها مقتلعة أو مقطوعة لا أوراق فيها بفعل الدمار والخراب، أم لأن الشمس في الزوال وقد زلت عن كبد السماء؟ إذا كان الأمر كذلك فإن الظاهرة الطبيعية لزوال الشمس عند الغروب أن الظل يصبح طويلاً غير مقطوع؟ ولكي يكون ظل أي جسم مقطوعًا بحسب تعبير صاحبنا فلا بد أن تكون الشمس في كبد السماء في الظهيرة. عندها يكون الجسم بلا ظل أو يكاد. فأي صورة يريد شاعرنا العظيم رسمها في أذهاننا؟ وهل الملكة الشعرية تقتضي مخالفة قوانين الطبيعة لكي يكون الإبداع إبداعا؟      

لا شك أنه يقرأ روائع الأدب العالمي بنهم وشره حتى تخرج تلك الألفاظ في كلماته وعباراته كما هي متناثرةً متنافرةً لا منطقَ فيها ولا شاعريةَ ولا إبداعَ بسبب مصادر النقل والترجمة والاقتباس المتفرقة والمختلفة وأساليب الترجمة المتخلفة. والمؤسف أن المتلقي لشعره متلقف متلهف يقبل بكل ما يتفوه به شاعرنا كأنه البحر في أحشائه الدر، لأنه كان ذات يوم رمز قضية. ولو نقبت أكثر وأطلت البحث لوجدت في شعره كثيرًا مما ورد في أشعار الآخرين وآدابهم في الغرب. ثم يسارع المهتمون فيترجمون هذا الإبداع إلى لغات العالم جمعاء، فتخلع المؤسسات والجمعيات والأندية الخاصة عليه جوائز الأدب والتجديد والإبداع. ولكن انظر كيف يترجمونه إلى الإنجليزية، ولسنا هنا في معرض مناقشة الترجمة الإنجليزية على ما لنا عليها من مآخذ. ولكن المفيد هنا أيضًا كيف عالج المترجم مشكلة (بساتين مقطوعة الظل)، حتى يتوافق التعبير وقانون الطبيعة:[6]

Here on the slopes of hills, facing the dusk and the cannon of time

Close to the gardens of broken shadows,

We do what prisoners do,

And what the jobless do:

We cultivate hope.

ومن أطال الأمل أساء العمل والشعر والترجمة. ولعمرك لو أن شاعرنا خطر بباله هذا التعبيــر الإنجليزي (cultivate hope)، وهو في غير محله في هذا السياق، وإن كان اصطلاحًا سليمًا في اللغة الإنجليزية وأقل تواترًا من (raise hope)، لنقله إلى العربية في أغلب الأمر كالأتي: نحرث الأمل أو نفلح الأمل. ذلك أن هذا هو ما تثبته المعاجم الثنائية في مداخلها الأولى وهو ما يسارع معظم العاملين في الترجمة العربية إلى أخذه دون روية، كذاك الترجمان الذي يترجم (once and for all) بمرة واحدة وإلى الأبد، وذاك المحرر الذي يترجم (jump to conclusion) بالقفز إلى النتائج.      

ورب ناعق ينعق: إن الإبداع الأدبي لا يكون في دقائقه وتفاصيله بل في مجمله ومجمل وقعه وأثره في الناس ومدى قبوله والاستجابة إليه. فلا يهمنا تعبير هنا ومصطلح هناك. ولا يعنينا مجاز مقترض واستعارة مقتبسة، فتلك هي العملية الإبداعية، والتجوز[7] في الشعر جائز. ولا شك أن في هذا الرأي نظرًا حتى يبدأ بالتآكل والانهيار تحت وطأة الصور المستعارة من أساطير الإغريق والحضارات القديمة التي لا تمت إلى الواقع بصلة، بل هو استعراض متكلف لمعرفة الشاعر وإلمامه المزعوم بتلك الحضارات وأساطيرها. فهو يدرك أن شعره سوف يترجم إلى اللغات العالمية، لذا فإنه يحرص دائمًا على مراعاة هذه الناحية لاسيما في المتأخر من شعره لكي يكتسب صفة عالمية فيكون له نصيب شعر إليوت وباوند وأودين ونيرودا وغيرهم من الشعراء العظام. ولكن شاعريته لا تتجلى إلا في الابتعاد عنها والعودة إلى أعماق ذاته.

لا صدىً هوميريٌّ لشيءٍ هنا.

فالأساطيرُ تطرق أبوابنا حين نحتاجها.

لا صدىً هوميريّ لشيء. هنا جنرالٌ

يُنَقِّبُ عن دَوْلَةٍ نائمةْ

تحت أَنقاض طُرْوَادَةَ القادمةْ

ناهيك عن أن تجربة المتلقي للنص، وهنا القصيدة، رغم شموليتها وبقائها في نفس المتلقي فإن دقائقها وبعضًا من أجزائها هي التي تبقى في ذهنه، ذلك أن الشكل أو القالب ينسلخ عن المضمون  شيئًا فشيئًا فتصبح ألفاظٌ محددةٌ منها لازمةً موسيقيةً يرددها ويستشهد بها. أما مجمل القصيدة فيبهت ويتلاشى في دائرة معارفه ونظام تصنيفاته ويغيب في وجدانه. فكم منا من يحفظ أي قصيدة عن ظهر قلب ما لم يتعمد ذلك أو يُجبر على حفظها في المدرسة أو ضمن أي نظام تعليمي آخر لغاية من الغايات؟ إن من طبيعة الأشياء أن ما يعلق في نفس المتلقي من نتاج إبداعي يتوقف في بعض نواحيه على ما يستهويه من ذلك الإبداع، والقلب وما يهوى، أبياتًا هنا وهناك ومقاطع قصيرة، تذكر بحبيب أو وطن سليب أو أم ثكلى، وغير ذلك من التجارب والمشاعر الإنسانية، وعلى ما يهيأ له من انتشار وترسيخ عبر الوسائل المختلفة كأنْ تصبح القصيدة أغنيةً يرددها الناس وإن كان منها ما يخالف الأعراف اللغوية، فتصبح نمطًا ونموذجًا ومثالا يوظّف (كما يقولون) لأمور أخرى. قد ينجح التقليد أحيانًا إن لم تعرف مصادره وقد يخفق أحيانًا، سواء أعرفت المصادر أم لم تعرف.   

لا شك في أن التجربة الشعرية من أسمى تجارب التعبير الوجداني والتواصل الإنساني ومن أرقاها.[8] فهي تختلف عن غيرها من التجارب التعبيرية الإنسانية في أنها فن وإبداع وابتكار يجمع ما بين اللفظ واللحن والموسيقى والبلاغة والبيان في نمط مميز، بحيث ينقل السامع أو القارئ إلى عالم خاص يشتد فيه التعبير قوة وحدة ووقعاً وتتخذ الصور ألواناً مختلفة تتمازج وتتناغم وتنسجم فيما بينها فتطبع معالمها في ذهن السامع أو القارئ وتبقى في نفسه برهة من الزمن. فهي تجربة خاصة ينفرد بها الشاعر ويمتاز بها عن سواه في أنه كعدسة الكاميرا يسجل ما يراه حسبما يراه فيلتقطه في إطار معين، معتمدًا في ذلك على مهاراته في التصوير والتعبير والإيقاع والموسيقى لا على النقل والاقتباس.

ورغم أن التجربة الشعرية تعبير ذاتي عما يجول في خاطر الشاعر وما يعتمل في صدره ويختلج في قلبه ويتولد في كيانه من عاطفة وسورة ووجدان ومواقف إنسانية، فإنها تفتح نافذة للعامة على عالم الشاعر فنطل من خلالها على جوهر ذاته. فعندما يكتب الشاعر قصيدة يكشف جانباً من جوانب شخصيته ويظهر ناحية من نواحي كيانه ووجوده. وهي تختلف عن الأنماط الأخرى من التأليف والإنشاء في شفافيتها ورقتها وعذوبتها وصدقها. فهي أولاً وأخيراً تعبير ذاتي وحوار بين الشاعر وذاته، اللهم إلا إذا كان الشاعر مجرّدَ ناظم مرتزق. وعلى هذا الأساس يمكن تناول الشعر عامة ضمن إطار تواصلي استحواذي يحاول الشاعر فيه أن يبلّغ ما عنده لذاته أولاً ومن ثم لمن هم حوله أو في بيئته المباشرة. فإذا كانت ألفاظه مستوردة ومجازاته مترجمة واستعاراته مقترضة من خارج بيئته فهل تتخطى التجربة الشعرية رصف الكلام إلى الإبداع المؤثر؟ لا صدىً هوميريٌّ لشيءٍ هنا؟

There is no Homeric echo to anything here!

Legends knock on our doors only when we need them!

There is no Homeric echo to anything.

Here is a general looking for a sleeping state

In the ruins of the coming Troy!  

ولعل من فضل الترجمة وجمالها أنها تعري اللفظ الأصلي فيتكشَّف لنا مدى سطحيته وسذاجته وتكلفه. فلنترك شاعرنا وأساطير الإغريق إذًا، ولنتحول من جديد إلى ما يقترفه العامة من المثقفين عبر الترجمة الهوميرية[9] المعاصرة. فمن مظاهر هوميريتهم، كما أسلفنا، مسألة موافقة العدد والمعدود. ولا نقول إنها تشكل مشكلة عندهم فمن الواضح أنهم لا يدركون ما يفعلون. فاغفر لهم يا أبتاه! ولكن ما يقترفونه من أغلاط لغوية في هذا المجال هو خرق فاضح ومشين للقواعد والاصطلاحات وما هو متعارف عليه في اللغة. لذا فالأمر مشكلة إذًا لمن يدرك أنه مشكلة. أما أولئك الجهلة والأميون الذين لا يدرون أنهم لا يدرون فقد تجاوزوا مرحلة الإصلاح ويستعصي علاجهم من أمراضهم اللغوية والفكرية والمنطقية. فمن كان منطقه سليمًا وعقله صحيحًا وذهنه متوقدًا لا يخطئ في أبسط الأمور اللغوية. ها كم مذيعة ما عهدناها تجلس إلا في مكان واحد منذ بدأت عملها في تلك الفضائية منذ سنوات، في نظام ترتيبات غريب عجيب، حتى لو أنك ألقيت نظرة على الكرسي الذي تقعد فيه لوجدت أثرَ مؤخرتها الكبيرة محفورًا ومنقوشًا فيه، تقول لنا بكل فخر واعتزاز:

طفل من بين خمسة أطفال يعانون من سوء التغذية.

فإذا كان الأطفال الخمسة يعانون سوءًا في التغذية فما محل هذا الطفل بينهم؟ ولكنها أخطأت وأخطأ المحرر الذي أعدّ لها نشرة الأخبار أو المترجم الأمّي الذي ترجمها لها ولم ير أول الجملة الإنجليزية فلم يستطع التعامل مع اختفاء اللفظ (child) منها.

One in five children suffers from malnutrition.

ومن الواضح أن نظام ضمان الجودة غير موجود في تلك الفضائيات، فها كم شريطًا إخباريًّا يقول لنا:

حماس تنظم تظاهرة أمام معبر رفح تضامنًا مع 6 آلاف عالقين على الجانب المصري.  

ولعل من كتب هذا الخبر لم يشأ القول (ستة آلاف عالق) لأن (العالق) ضرب من البعير، أو لعله لفظ عامي فاحش في لهجة صاحبنا. ولكن هذا غير محتمل. وخياره نتيجة كسل أو جهل بأصول اللغة. ورب فيلسوف جاهل يخلط بين الحال[10] والتمييز والبدل في مسألة أخرى وفي موضع آخر، ولا يعرف الفرق بين الخطأ والغلط[11]، ولا يتجاوز علمه ما تلقنه من معلمه دون إعمال الفكر والروية، ويستشهد بأمثلة لا تدل إلا على عجز وقصور وضعف بصر وعدم فهم، فيقول مثلاً إن حكمها حكم (وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطًا أممًا)، وهي مسألة مختلفة، أي أن القصد (ستة آلاف [شخص] عالقين) فحُذف لفظ (شخص) على التقدير، متجاهلاً أثر الترجمة الحرفية في تلك التراكيب الغريبة، نحو (ستة آلاف عالقين).  جاء في وكالات الأنباء الأجنبية:  

About 6000 Palestinians stuck on the Egyptian side of the closed Rafah Border Crossing.

 

Hamas organises protest at Rafah Crossing, demanding it be opened.

وذاك مراسل رائع آخر يقول: قُرى فاجأها سيولٌ عارمة. والقرى جمع (قرية) وهي مؤنث، وسيول مؤنث لغير العاقل جمع (سيل). فهل نقول عادة (جاء سيول)؟ وسق على ذلك كثيرًا، فهاهم العباقرة لا يعرفون الفرق بين الأوجاع والآلام. يقول لهم الكاتب المسرحي، إن اسم المسرحية هو (The Pains of the Messiah)، فيقوم الترجمان العبقري بنقلها بـ (أوجاع المسيح)، ويعرضون الاسم هكذا على الشاشة بكل فخر واعتزاز. والمتعارف عليه في الديانة المسيحية هو (آلام المسيح) لا أوجاعه. والفرق بين (الألم) و(الوجع) هو أن الوجع أعم من الألم، والوَجَع اسم جامِعٌ لكل مَرَضٍ مُؤْلِمٍ أي أنه المرض والألم معًا. لذا قيل وجع في الرأس ووجع في المعدة وغير ذلك لأن الوجع يشمل المرض والألم الذي يتسبب فيه المرض، وألم في الرأس وألم في المعدة إذا كان القصد منه الألم فقط. ولم يكن السيد المسيح عليه السلام مريضًا موجعًا حتى توصف (آلامه) بـ(بأوجاع المسيح). تلك فضائيات تتباهى بالتنوع والاختلاف، فتظهر جهلاً مقيتًا بالحضارات والثقافات.  

وفي الأصل، كل ألم هو ما يُلحِقُهُ بك غيرك والوجع هو ما يَلحقك بك من قبل غيرك ومن قبل نفسك[12]، ثم استعمل أحدهما في موضع الآخر، عندما دبت فيهم الاعتباطية والعشوائية والفوضى في التعبير والتفكير، لمن يريد التعمق من حملة الشهادات والاختصاصات في اللغة العربية وآدابها، لاسيما أولئك "المتخصصون" الذين يمتأرون[13] امتئاراً على الناس دون علم جامع يحيي ومعرفة شاملة تفيد، ويحرفون الكلم عن مواضعه وخارج سياقه بغلّ وحقد وجهل وكيد، ويبنون على ما اقتطعوه من مقاطع مجزوءة ومجتزأة آراءهم الضعيفة ومناظراتهم الهزيلة ومهاتراتهم المنحطة بعقولهم المرتجة وأدمغتهم المريضة الفظة، والذين يظنون أن المعرفة اللغوية حكر على شهاداتهم الواهية ودرجاتهم الجامعية الهزيلة، وأن الترجمة لا علاقة لها بالتفقه في اللغتين بما يضاهي ويبز ويبرّز على أغلب المتخصصين في شق واحد منهما. ولكن هذا هو أقصى جهدهم وجهلهم!  

قد كان قومُك يَحسبونَكَ سيدًا           وإخـالُ أنكَ سيــدٌ مَغْيونُ

وها كم مترجمًا فذًا آخر يترجم فيلمًا وثائقيًا، يقول على لسان أحدهم: )لقد جعل هذا الدم يجري باردًا(، نقلا بارعًا للتعبير الاصطلاحي في اللغة الإنجليزية (It made my blood run cold.) بمعنى (ارتعد وخاف وارتعب) و(جمد الدم في عروقه)، فكيف يتأتى المعنى من (جعل الدم يجري بارداً)؟ أوليس هذا التعبير ترجمة حرفية عمياء بغيضة وإنْ وافقت أساليب العربية من رفع ونصب وجر، وغير ذلك؟ وأما المعنى المقصود فلا ضير من تحريفه وتشويهه؟ ولمَ لا؟ ألم يسبقه إلى ذلك شاعرنا المحلق بقوله (اذهب عميقا في دمي) نقلاً عن الإنجليزية (run deep in my blood)، كما أشرنا في مقالات سابقة؟

وما نكاد نفرغ من مسألة حتى نصعق بمسألة أشد غبنًا فهاكم مذيعًا آخر يتكرم علينا بأسلوب جاد رسميِّ النبرة، برأس حليق ولما يعتمد:

تعتبر جزيرة سوقطرة اليمنية متحفًا ثريًا بالكائنات النادرة ومظاهر الحياة الطبيعية. وقد ساعدت الخصائص المناخية في الحفاظ على هذه البيئة، حيث تعزل الرياح الجزيرة عن العالم طيلة أربعة أشهر من كل عام. ومن المتوقع أن تُعلَنَ سوقطرة بما فيها من حيوانات ونباتات نادرة أن تعلن في العام المقبل رابع جزيرة طبيعية في العالم.       

فلا أملك من نفسي، دون التعليق على استخدام (متحف) و(مظاهر الحياة الطبيعية) في هذا السياق واعتماد الفعل الاستئنافي (تعلن) دون مسوغ، سوى أن أضحك متسائلاً: وماذا عن بقية الجزر؟ أليست طبيعية هي الأخرى أم أنها من صنع الإنسان؟ أفلا تعجبون؟

كيفَ تضيعُ العُــلومُ في بلدٍ   أبنــاؤهُ كلُّـهم يحــافظُها
ألفــاظُهم كلُّها معطـــلةٌ    مـا لمْ يعـولْ عليكَ لافظُها
من ذا يساوي إن نطقتَ وقـد   أقرَّ بالعجـزِ عنـكَ جاحظُها
علمٌ ثنى العـالمينَ عنك كما    ثنى عنِ الشمسِ مَنْ يُلاحظُها

ثم نشاهد إعلانًا لقاتل صراصير، يشير فيه الراوي إلى تلك الحشرات بصيغة جمع المذكر السالم، وعليك أن تصدقه.

يعيشون حيث تقيمون. يكبرون ويتكاثرون حيث يستحيل رؤيتهم أو الوصول إليهم.  

بدلاً من: تعيش حيث تقيمون. تكبر وتتكاثر حيث يستحيل رؤيتها والوصول إليها. وبين محررة النساء وقاتل الصراصير تصبح النساء والحشرات ذكورًا.

وبُدِّلَتْ والدَّهرُ ذو تَبَدُّلِ         هَيْفا دَبورًا بالصَّبا والشَّمْألِ

أثر الترجمة في الإعلانات العربية

ورب قائل خذنا بحلمك قليلاً فلا تنتظر من الجميع أن يكونوا على معرفة واطلاع بدقائق الأمور وتفاصيلها. فهؤلاء بشر مبتدئون يسعون لتأمين لقمة العيش وتأمين أسباب الحياة لهم ولعيالهم. ونحن لا نلوم هؤلاء مباشرة رغم مآخذنا الكثيرة عليهم ولكننا نحمل بشدة على الفضائيات التي تدب فيها الفوضى بينما تدعي الحرص على المستويات وننتقد أولئك "المتخصصين" الذين يهبون للدفاع والمحاجة بغير علم أو تفقه!      

وعودًا على ذي بدء، آه! عفوكم! رجاء لا تؤاخذوني! فلنعد إلى المربع الأول (Of course! Let’s go back to square one!)، فهذا قمة الإبداع عندهم! ولنعد إلى نقطة البداية (starting point)، ونختم بما قال تي إس إليوت عن لورد بايرون مرة أخرى.

لقد قدم بايرون للغة ما يقدمه اليوم كثيرًا جدًا كَتَبَةُ عناوين صُحُفِنَا يومًا بعد يوم[...]. وليس الأمر ضعف الفِكَر عنده بل تمكنه المدرسي من اللغة الذي يجعل سطوره تبدو تافهة وفِكْرَه سطحيا.

هذا هو بالتحديد ما تفعله الصحافة العربية وإعلامها باللغة على أيدي هواة ومبتدئين لا يتعدى علمهم وتمكنهم اللغوي مرحلة المدرسة الابتدائية. وكيف لا، ومعظم المناهج التربوية في كثير من البلدان العربية توقف تعليم الأطفال باللغة العربية بعد المرحلة الابتدائية، وتعتمد اللغة الأجنبية، إنجليزية أو فرنسية، لغة التعليم والتواصل والتخاطب في المرحلتين الثانوية والجامعية؟ فإن افتقر الناس إلى الأساس ونظروا نظرة دونية إلى اللغة العربية، فلا غرو أن تكون النتيجة ما نراه ونسمعه ونقرأه في الإعلام والأدب والفكر العربي المعاصر. فما نشهده اليوم ما هو إلا نتاج تلك الأجيال السابقة التي أخفقت إخفاقًا ذريعًا، ثم تعود إلينا مهلهلة مضعضعة البنيان خرقاء حمقاء شمطاء تقول لنا ما كان يجب فعله! فأين كانت؟ ألم تكن في صلب القرار؟ فلنتصل بمركز اللغات في باريس أو ربما واشنطون!

 

إذا الشعبُ يومًا أرادَ الهوانْ    فلا بدّ أن يستجيبَ الزمانْ

أخيرًا، قد تتساءلون لماذا كل هذا الهجوم ولماذا كل هذه النعوت والأوصاف! الأمر بسيط: إن الإعلام العربي قد نصب نفسه وصيًا على المعايير المهنية. ولكنهم، وما فتئنا نستعرض نتاجهم على مدى أربع سنوات وما يقارب خمسة آلاف ساعة مسجلة من مختلف البرامج، كلما زادوا زهوًا وعجرفة وكبرًا زادت أخطاؤهم وأغلاطهم. ومن لا يعمل لا يخطئ بالطبع، ولكن عن أية معايير مهنية يتحدثون وعن أية موضوعية يتكلمون؟ يريدون تغيير اللغة بالقوة على أيدي جهلة وأميين بتبنيهم معايير ساقطة تعلموها من مدرسة الصحافة المعروفة التي نشأت لأسباب متعددة وتميزت لعوامل مختلفة منها، وهو ما يهمنا هنا، الترجمة الحرفية المطلقة الجاهلة والتزام الإعلاميين والمترجمين بنهج متخلف في النقل والترجمة ووضع المصطلحات. ولقد انتشرت أساليب هذه المدرسة في الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم ضمن ضوابط تحكمت في مدى الانتشار والاقتباس والتبني وضمن المعطيات والمتغيرات السياسية. أما اليوم فبحكم الفضائيات وشبكة الإنترنت و"الانفلات الحضاري"، فإننا نجد تلك الأساليب وقد أفلتت من عقالها وخرجت عن طورها. وما زلنا نسمع حماقات كالآتي: بوتن يطلق سباق الحرب الباردة. فكيف يطلق المرء السباق، يا مَئِر؟

ولا شك أن إليوت كان يقصد الإبداع اللغوي الذي يغني[15] اللغة الذي يتأتى للأدباء والشعراء والمفكرين والمبدعين الآخرين. ولكن الأمر ينسحب كذلك على المشتغلين في الإعلام والصحافة في عصر التواصل والفضائيات، فالتعاون بين متحدثي اللغة العاديين (كما يصفهم إليوت) والمبدعين قد أصابه الخلل لانقطاع السلالة المعرفية كما أشرنا من قبل ولافتقار هذه الحِقبة من التاريخ العربي إلى المبدعين الذين يغنون اللغة والفكر عبر نتاجهم الأصلي، لا الزائف والمترجم والممضوغ والمجتر من لغات أخرى، والذي يصبح جزءًا من وجدان عامة الناس ومن ألفاظهم اليومية فيسري على ألسنتهم عذبًا مستساغًا محددًا ودقيقًا وواضحًا لا خلل فيها ولا اضطراب يتولد من واقع البيئة والتاريخ! إليكم مثالاً أخيرًا (أريد أن أنهي هذه المقالة حقًا). قالت لنا مذيعة قبل قليل:

هذا البرنامج مستمر معكم ولكن بعد وقفة قصيرة، فلا تذهبوا بعيدًا!

وكنت أريد أن إلى أذهب الحمام، وهو على بعد عشرة أمتار من التلفاز. فأمسكت نفسي وبقيت مسمّرًا أمامه خوفًا من أن تكون المسافة بعيدة فيضيع علي ما بقي من البرنامج والجواهر اللغوية التي يمن بها علينا مذيعوه ومعدوه وصحافيوه وإعلاميوه. قد أضيع في طريقي إليه أو أعلق في زحمة السير من غرفة الجلوس إلى الحمام ذهابًا وإيابًا! والحق أن تلك المذيعة الفذة ترجمت في تقليدها للإعلام الناطق بالإنجليزية ما يردده المذيعون فيه (don’t go away) بحرفية مطلقة فنسفت المصطلح الأصلي قائلة (لا تذهبوا بعيدًا): لا = don’t  + تذهبوا + go + بعيدًا =  away! هكذا يتعامل الأغبياء مع مصطلحات اللغة الإنجليزية، هنا. وإن كان التعبير العربي (لا تذهبوا بعيدًا) سليمًا بكل معالمه وخواصه. ولكن ليس هذا ما يقال في العربية (لا تذهب بعيدًا! ابق هنا!) في هذا السياق، وليس هذا معنى (don’t go away). ولعل العالم (العربي) قد تحرّر من الرق ولكن من المؤكَّدِ أنه لم يتحرر من العبودية!

أنجزت المسودة الأخيرة في 4 تموز/ يوليو 2007 وزيدت في 16 تموز/ يوليو 2007

الحواشي:


[1]  لمن يريد التعمق، لفظ سرداب معرب من الفارسية (صرداب)، وهو مكان حفظ الثلج، وتكتب في الإنجليزية (serdab) بمعنى الحجرة التي يوضع فيها تمثال للميت. والصَّرْد الخالصّ من كل شي ومكان مرتفع من الجبال ومسمارٌ في السنان يُشكُّ بهِ الرمح. ومن الجيش العظيمُ. والصَّرْد أيضًا البَرْد،  معرَّب بهذا المعنى من الفارسية. انظر المعاجم.

[2]   عندما وصفنا الترجمات العربية الحديثة التي نقرأها ونسمعها بالحمقاء والخرقاء، احتج بعضهم على ذلك الوصف ولم يميز بين وصفنا لنتاج عقولهم وما تخرجه لنا أدمغتهم ووَصْفِ من يرتكب هذه الحماقات بالأحمق والأخرق، ولم نكن نلجأ إلى هذا الأسلوب في البداية، فاتُهمنا رغم ذلك بالسب والشتم واللعن، وبأننا نتحامل على المترجمين (وقد أصبح عندهم حزب خاص بهم وأحمد سعيد بوّاقة يدافع عنهم)، وكأننا لم نكن نمارس الترجمة وما برحنا منذ كان معظمهم مجرد فكرة أو حيوانًا منويًا في صلب أبيه أو مجرد فكرة محتملة، أو كان ما يزال يدرج ويدب ويلبس حفاظه

 وهو ما يعرف بالحفاض عند العامة. وهنا يُقال إن الحفاض هو تحريف للحفاظ ويعيبون على الناس استعمال "الحفاض" في توهمهم بأن ثمة فصلا بين الفصيحة والعامية. ولكن هذا الرأي ضعيف لأنه يفترض أن الخرقة أو الفوطة المطروحة هي لحفظ الغائط أو ستر عورة الطفل (فإنْ كان الأخير فلماذا خصوه بالحفاظ ولم يسموا أي ساتر يستر العورة بالحفاظ). ولكنْ حَفَضَ الشيء يحفُضهُ حَفْضًا ألقاهُ وطرحهُ من يديهِ. فقولهم "الحِفَاض" بالعامية هو بمعنى مكان إلقاء الغائط (كمكب النفايات) وليس مكان الاحتفاظ به. لذلك لا حرج في استعمال الحفاض في المقام الفصيح من الكلام

ولم نكن نصف آنذاك سوى تلك الحالة المزرية للترجمة العربية، لفتًا للنظر وتنبيهًا من دافع الحرص على المصلحة العامة من جهة والمعايير اللغوية من جهة أخرى والحفاظ على تلك اللغة الرائعة التي خصنا الله بها، وإن كان في ذلك شيء من الحدة والقسوة أحيانًا. ومن الواضح أن أولئك مصابون بالخبل الفعلي حتى تعجز عقولهم عن إدراك المشكلات والعيوب التي نفندها بكل دقة وموضوعية وحرص في البحوث المطولة التي تنشر في موقع الترجمان وفي الكتب والمنشورات المختلفة. ولكن كما سألتكم من قبل، بالله عليكم ماذا تصفون من يصر على هذه الاستعمالات المعيبة (ونحن هنا ننتهج المنهج الوصفي الشائع في الغرب العقلاني لا المشرق الوجداني، كما أكدت لنا إحدى الكريمات هذه الخرافة الشائعة والمتأصلة في عقول أغلب العرب الذين لا يرون من المبنى سوى الواجهة ومن الواجهة سوى طلائها. وإذا صنفته ميزته وإذا ميزته أقصيته أو رفعته أو أدنيته)؟ كيف تقوّمون من يصر على الخطأ متعمدًا ومتربصًا رغم ما يأتيه من شرح وتفصيل للأغلاط الشنيعة؟

عندي هر كلما أعددت الطعام راح يحوم حولي مترقبًا طعامًا يسقط أو قطعة لحم أمنّ بها عليه. ذات يوم أعددت كوب شاي مستخدمًا كيس شاي، وكان في المطبخ سلة نفايات مفتوحة فرميت الكيس المستعمل من مسافة باتجاه السلة فوقع على الأرض فأسرع الهر وقد ظن أنه طعام يأكله فحرق أنفه بالكيس الذي كان ما يزال ساخنًا. ومنذ ذلك الحين ظل الهر يحذر كيس الشاي كلما رآه في يدي أو رأى أي شيء مشابه يتدلى أمامه، ومن لسعته الحية حذر الرسن، حتى مضى وقت عليه لم يكن عنده ذاكرة للنسيان (بالإذن من شاعرنا العظيم)، فنسي ما حدث له بالكيس الأول. فعاد من جديد يترقب أي شيء أحمله في يدي، سواء أكان ذلك طعامًا مستساغا أم كيسَ شاي ساخنًا. هذا الهر يذكرني بإعلامنا العربي الذي يعاني ضعفًا في الذاكرة. كلما نبهتَهُ إلى أمر استجاب إليك ثم ما لبث أن عاد إلى عادته القديمة. ظلوا يقولون (إرهابيون مشتبه فيهم) حتى لفتنا نظرهم فاستفاقوا إلى رشدهم ثم عادوا إلى سابق عهدهم. وما انفكوا يقولون (إعادة تمثيل) للجرائم والأحداث التي يُصار إلى "مَسْرَحَتِها" (من مسرح) واسترجاعها تمثيلاً حتى لفتنا نظرهم إليها فاستنبطوا مشكورين عبارة (تمثيل واقع). ولا أدري إلى متى يستمر هذا الاستعمال الحسن قبل أن يأتينا من يفتي بخلاف ذلك فيعودوا إلى سابق عهدهم.          

[3]   النوف هو بظارة المرأة، أي بظرها، وما تقطعهُ الخافضة منهنَّ. من ناف ينوف نوفًا إذا طال وارتفع! ونافَ الصبيُّ من الثدي ينُوف نَوْفًا مصَّ. نيَّفَ عليهِ تنييفًا زاد. وأناف على الشيءِ إنافةً أشرف وطال وارتفع. وعلى كذا زاد.

[4]  من معاني العِذار: جانبا اللجام وجانبا اللحية وشفرتا النصل والخد والحياء. يقال للمنهمك في الغيّ المتبع هواهُ خلع عذارهُ أي حياءَه! ولما كانت التورية ضربًا من الحياء ولما كانت المَعْذِرَةُ الحُجَّة التي يُعْتَذرُ بها، فقد نُصبتْ في (معذرةَ العِذار) بمعنى أطلب العذر، مقابل (pardon the pun)، المتعارف عليه عند أهل اللغة الإنجليزية بهذا المعنى!  

[5]  المقام هو ما يسميه هاليدي بـ (register) ويعرف أيضًا بلهجة الخطاب. ولكن المقام مأخوذ من الموسيقى وهو مصطلح أدق من المصطلحات الأخرى في وصفه للمقابل الإنجليزي. وقد استخدمه مؤلفون آخرون من قبل بهذا المعنى، وسبق أن جاء عنوانًا لكتاب في اللغة لمؤلف لبناني لا أذكر اسمه. فاقتضى التنويه إنْ لم يسعف التنبيه.    

[7]  التجوز في اللغة هو أن تتجاوز ما وضع اللفظ له في الأصل إلى غيره، كأن تقول جدع الله أرومتك فجدع مختص في الأصل بالأنف واستعماله للأرومة تجوّز فيه.

[8]   المصدر: من مقدمة "التبليغ في الشعر العربي المعاصر"، 1996. دراسة غير منشورة للمؤلف (علي درويش).

[9]   نسبة إلى هومر سمسون.  

[10]   لمن يريد تجاوز التعريف المدرسي والألقاب الفضفاضة والعناكب الفكرية والتزمت الأستي، فإن الحال، كما ذكرنا من قبل، "وصف منصوب، فضلة، يبين هيئة ما قبله؛ من فاعل، أو مفعول به أو منهما، أو من غيرهما – وقت وقوع الفعل". والفضلة "ما يمكن أن يستغني عنه – في الأغلب – المعنى الأساسيُّ للجملة. وهي خلافُ العمدة". "وليس من اللازم أن تكون الحال في كل الاستعمالات وصفًا، وإنما هذا هو الغالب، ولا أن تكون فضلة، وهذا غالب أيضًا. إذ تكون بمنزلة العمدة أحيانًا في إتمام المعنى الأساسي للجملة، أو في منع فساده"(انظر النحو الوافي للعلامة عباس حسن، المجلد الثالث، الصفحة 338-384، لشرح وافٍ للحال وشروطها). فقولك: جاء الرجل مسرعًا، الحال فيه فضلة لأن المعنى الأساس في الجملة يكتمل دونها باستيفاء شروط الجملة (جاء الرجل جملة تامة تتألف من فعل وفاعل)، وإن لم يأت الحال لتبيان هيئة المجيء، وهذا هو الأغلب في الاستعمال كما جاء، أي أن ذكر الحال هنا فضلة يمكن الاستغناء عنها. أما قوله تعالى: {وما خلقنا السماءَ والأرضَ وما بينهما لاعبين} (الأنبياء: 16)، فالحال فيه ليس فضلة، ذلك لأن المعنى الأساس لا يستقيم دونها. فلو جاءت الآية {وما خلقنا السماءَ والأرضَ وما بينهما} واكتفت، لاختلف المعنى الأساس تمامًا من توكيد للغاية من خلق السماء والأرض وما بينهما أو كيفيته إلى نفي لها، إذا شئنا أن نكمل الجملة نحويًا ونستوفي شروطها بمعطياتها دون ذكر الحال. أي أن حذف الحال يغير الجملة تمامًا لأنها تبقى ناقصة ما لم يحاول القارئ (المتلقي للجملة والذي لا يعرف القصد من الكلام حتى يكتمل ضمن معطيات اللغة وشروطها وقواعدها، وهذا شرط أساس من شروط الإنشاء الواضح والتواصل الفعال والتبليغ) إتمام المعنى بمعطيات الجملة. فالحال في الآية إذًا عمدة الجملة لا يتأتى معنى الجملة دونها. لذلك ميز النحاة بين هذين النوعين من الاستعمال. أما الأول فوظيفته التبيين، وهو الغالب كما أسلفنا. وأما الثاني فوظيفته التوكيد، وهي أن يستفاد المعنى بدونها، نحو {ولى مدبرًا}، ذلك أن معنى (ولى) هو (أدبر). ولكن جيء بها للتوكيد، والحال هنا فضلة معنوية. والإخبار بالظرف الناقص أيضًا مسألة معروفة. وشرط الحال أن تكون نَفْسَ صاحبها في المعنى، نحو (جاء سعيد راكبًا) وليس (جاء سعيد ركوبًا) وأن تكون نكرة. وما يجوز أن يأتي حالاً يجيء صفة للنكرة. فكل ما جاز أن يكون حالاً يجوز أن يكون صفة للنكرة، وليس كل ما يجوز أن يكون صفة للنكرة يجوز أن يكون حالاً. ويجوز إضمار عامل الحال، نحو {بلى قادرين}، أي نجمعها قادرين (انظر الأشباه والنظائر ومصباح الراغب والمفصل في صنعة الإعراب).

أما ما يُقال عن مفعول مطلق محذوف في التعبير (ثمّن عاليًا)، المترجم بحرفيته من الإنجليزية (highly appreciate)، (ثمن [تثمينًا] عاليًا) فمحض هراء وإدعاء باطل، لأنك لو سألت مستخدمي هذا التعبير الأخرق لمَا خطر ببالهم إطلاقًا مفعول مطلق محذوف ولا منتوف. ولكن كما أشرتُ في مقالتي "المنظورُ العمودي في اللغة الإنجليزية وأثرُه في الترجمة العربية"، فإن التعبير لا يستقيم إلا باللجوء إلى استخدام المفعول المطلق، ذلك أن الحذف في اللغة ضربان: ضرب يظهر فيه المحذوف عند الإعراب، وضرب لا يظهر فيه المحذوف بالإعراب، ولكنك تُدرك مكانه إذا تفحصتَ المعنى ووجدته لا يستقيم ما لم يراعِ ذلك المحذوف. ولما كان (عاليًا) على هيئة الحال فإن المفعول المطلق المحذوف المزعوم لا يظهر في الإعراب ولا يعلم مكانه. والحال هنا في (ثمن عاليًا) يبين هيئة فاعله، وهو ما يرتسم في ذهن قائله وسامعه. والفرق الأساس الذي أظهرناه من قبل بين (الحال) في العربية والـ(adverb) في الإنجليزية هو أن الأخير يصف الفعل ويختص به فقط. وهنا موطن العلة وبيت الداء، وهو ما يغيب عن بال معظم المتخصصين ولا يدركه المتهورون.

وبالإضافة إلى ما تقدم، فالقضية ليست مجرد أن يراعي هذا التعبير الدخيل قواعد النحو والصرف في اللغة، بل هي مسألة استخدام وظيفي فيها. فالسؤال الذي يشرأب برأسه هنا: إذا كان (ثمن عاليًا) استعمالا مستساغًا في العربية، كيف تعبرون عن عكسه؟ ثمن منخفضًا؟ ثمن واطئًا؟ وإن سلمنا بأن هناك مفعولاً مطلقًا محذوفًا، فهل تقولون (ثمن تثمينًا منخفضًا أو واطئًا). ليس هذا من سنن العرب في شيء، لا من فصيح كلامهم ولا من بليغه! أم أنكم تلجأون إلى النفي فتقلون (لم يثمن عاليًا)؟ ولكن نفي الشيء لا يكون بالضرورة في علم العلاقات المنطقية التي يقوم عليه علم النحو العربي عكسه ونقيضه دائمًا. وإذا كنتم في عيِّ من أمركم وتنتظرون الخواجة الإنجليزي لكي ينجدكم بتعبير مضاد في الإنجليزية، فاطمئنوا فلن يفعل ذلك، فليس من سنن أهلها التعبير عن (highly appreciate) بنقيضها ضمن المنظور العمودي، فيخرجون عنه إلى أنماط أخرى. فلا يقال فيها (lowly appreciate)*، فإن ورد فهو من غريب الاستعمال والدخيل فيها. بل تلجأ الإنجليزية إلى النفي (does not appreciate). وإن شئت القول (does not highly appreciate)*، فهو من الغريب الممجوج فيها أيضًا ولا يسمع إلا من الغرباء والدخلاء عليها الذين يتوهمون أن القاعدة النحوية في (highly appreciate) تنطبق على نقيض التعبير. والقياس لا ينفع هنا لأن الظروف جيء بها متشابهة الشكل مختلفة المعاني والوجهات. وشاع هذا النمط، كما أسلفنا في المقالة المذكورة، أي (highly appreciate)، في معرض الاستحسان فقط وللتعبير عن درجة التقدير والاستحسان. وليس في الإنجليزية وضع معكوس يعتمد ظروفًا (adverbs) مشابهة للتعبير عن ذلك. بل تلجأ اللغة الإنجليزية إلى ألفاظ الشدة والنقائض الصريحة، نحو (approve/disapprove). وفي اللغة باب النقائض والأضداد، ويدخل فيه ثلاثة أنواع من النقائض ذات الصلة ببحثنا هنا: النقائض التي تقبل التدرج وتشمل كلمات لا يثبت نفي إحداها معنى كلمة مضادة، نحو غالٍ ورخيص وكبير وصغير. "فهذه النقائض كلمات تقع في أقصى طرفيْ التناقض يفصل بينهما درجات من التقارب والتباعد، كالبارد والحار (وما بينهما من درجات)، وطويل وقصير (وما بينهما من درجات). أما النقائض الثنائية (أو المتممة) فلا تقبل التدرج، وهي كلمات يوجب نفيُ إحداها إثبات معنى كلمة أخرى، أي أنها كلمات لا تحتمل سوى إحدى الحالتين، كالحي والميت، والمفتوح والمغلق، والصدق والكذب، والذكر والأنثى، والسماء والأرض، والليل والنهار. وهذه النقائض قد تكون مطلقة كالموت والحياة (فإما أن يكون المرء حيًا أو ميتًا. لا جدل في ذلك ولا خلاف، ولا يكون أكثر حياة أو موتًا من غيره دون التجوز في اللفظ ومعناه الذي وضع له في الأصل)، أو تتوقف على الدلالات والمفاهيم الفكرية والاجتماعية والحضارية وغيرها، فبين العازب والمتزوج هناك المطلق والأرمل والمنفصل والمتوفى الخ تبعًا لما يفصّله الناس ويتعارفون عليه. وأما النقائض العلاقية فهي علاقة الأضداد في أن تنقض جملة تحتوي على إحدى الكلمات معنى جملة أخرى تحتوي على نقيضها، نحو اشترت سلمى الكتاب من ليلى وباعت ليلى الكتاب لسلمى. (انظر كتابي "دليل المترجم" صفحة 118 -119، الطبعة الأولى 1989، والطبعة الثانية 2001).

ولمن يريد التعمق والوقوف على دقائق اللغة الإنجليزية وتفاصيلها، فقد يكون الكلام الآتي مفاجئًا. فالظـــرف (highly) في التعبير (highly appreciate)، والذي أخذه العرب المعاصرون عن الإنجليزية عبر الترجمة الحرفية، هو ضرب من الإطناب وربما التطويل أو الحشو فيها يعيبه الحريصون على اللغة. والإطناب في اللغة هو زيادة اللفظ على المعنى لفائدة أو هو تأدية المعنى بعبارة زائدة لتقوية المعنى وتوكيده، وذلك لفائدة التأكد من نقل المعنى إلى السامع. والتطويل هو الزيادة لغير فائدة والحشو هو أن تكون الزيادة في الكلام متعينة لا يفسد بها المعنى إذا ذكرت أو بإسقاطها إذا حذفت. فمن المعاني الأساس لـ(appreciate)، زيادة قيمة الشيء، وتقدير قيمته، والامتنان. ولما كانت (highly)، كما أشرنا في المقالة، ظرفًا يعني (بالتقدير والاستحسان)، و(الشدة) و(العِظَم)، فلا يجوز القول (highly appreciate) بمعنى الاستحسان، إذ أنك بذلك كأنك تقول (استحسان زائد + استحسان). ولا بد أن يكون معنى (highly) في هذا التعبير هو (الشدة والعِظَم)، أي قدّر أو ثمن الشيء تثمينًا كبيرًا أو عظيمًا، أو شديدًا. وليس فيه من العلو والرفعة بشيء لا في الإنجليزية ولا في التعبير المنقول حرفيًا (ثمن عاليًا). جاء في المعاجم: ثمُنَ الشيءُ ثَمَانَةً: كان ثمينًا أي كثير الثمن. وثمّنَ الشيء: قدّر له ثمنًا. والثَمَن: ما كان عوض البيع. والثَمَن: ما استُحِقَّ به المبيع أو هو ما يلزم بالبيع وإن لم يُقوَّم به فقد يكون مساويًا للقيمة وقد يكون زائدًا عليها أو ناقصًا عنها. وأمَّا القيمة فهي ما قوَّم به مقوَّمٌ. وهي النوع والثَمَن الذي يقاوم المتاع أي يقوم مقامهُ. لذا فمن الخطأ والحماقة الإصرار على القول (ثمن عاليًا) و(قدر عاليًا).

وحسبنا أن نرى كيف تتعامل اللغات الأخرى كالفرنسية مثلاً مع اللفظ الإنجليزي (highly appreciate) حتى ندرك أن ما نطق به العرب المعاصرون خَلفٌ مستقبح (والخَلف لمن يريد التعمق هو القول الرديء) لم تعرفه اللغة إلاّ في العقود الثلاثة الماضية بفضل، بل بفعل الطفرة في المثقفين والمستثقفين والمتعلمين العرب الذين درسوا العلم في مدارس وجامعات أجنبية التوجه أو في الغرب فأخذوا عن الغرب أوساخه ونقلوها بكل فخر واعتزاز إلى العربية، "فإنك لا تكاد تجد مثقفًا فرنسيًا واحدًا يقول (J'apprécie hautement) وهي "الترجمة العمودية الحرفية" لـ (I highly appreciate) كما يقول العرب (أثمن/أقدر عاليًا)"، كما أكد لي صديق كريم المحتد ضليع في علوم الفرنسية. وبذلك، وكما يقولون في الإنجليزية، (I rest my case). واللهم إني بلغت فاشهد!

[11]  لمن يريد التعمق: من الأغلاط الشائعة تسميتها بالأخطاء الشائعة. فالخطأ هو ضد الصواب، فخَطِئَ الرجلُ يَخطَأُ خَطَأً، وأَخطأَ يُخطئ إخطاءً وخاطئَةً: ضد أصاب. أما الغلطُ فهو أن تَعْيا بالشيء فلا تَعْرِف وجْهَ الصوابِ فيه. ولا أظن أنَّ من يغلط في استعمال لغوي يُريد الصواب فيخطئ فيه، بل يلتبس الأمر عليه فلا يعرف الصواب من الخطأ. والطريف في الأمر أن العدناني سمّى مؤلفه المشهور (معجم الأخطاء الشائعة) الذي أصدره في عام 1973 ثم عدل عن ذلك في كتابه اللاحق فسماه (معجم الأغلاط اللغوية المعاصرة) في عام 1984، دون أن يبين لنا وجه الاختلاف، ولم أعثر على تفسير له في كتابه. ولكنّ الذين عنوا بالأغلاط الشائعة وجمعوها في كتب أخرى يَستشهد بها الأغرار وحملة الشهادات العليا المتخصصون في اللغة العربية وعلومها أخطأوا في تسمية كتبهم بالأخطاء الشائعة. والكتاب يعرف بعنوانه والمرء بأقرانه.        

[12]  انظر الفروق في اللغة لأبي هلال العسكري.

[13]  فائدة: امتأر يمتأر امتئاراً على فلانٍ، احتقد. ومأر  يَمْأَرُ مَأْراً بين القوم: أفسد بينهم، والمَئِرُ: المُفْسِدُ بَيْنَ النَّاسِ.

[14]    من كتاب الوزير أبو الحسن جعفر بن عثمان المصحفي في مسألة فاضت وفاظت. انظر الأشباه والنظائر في النحو للإمام جلال الدين السيوطي (ص 168).    

[15]  مازال معظم المتخصصين في اللغة والترجمة يصر على استخدام (إثراء) بدلاً من (إغناء) رغم أن الفعل (أثرى) كما قلنا في أكثر من مناسبة هو فعل لازم غير متعدٍ ولا يجوز استخدامه كفعل متعد نحو (إثراء الكتبة العربية) بل (إغناء المكتبة العربية). ولكن لا حياة لمن تنادي.       

اضغط هنا للحصول على نسخة بي دي إف

Click here for a PDF version (in Arabic)

 

 


Copyright © 2007 Ali Darwish.
All rights reserved. No part of the contents of this document may be copied, reproduced, or stored in any retrieval system, without the express permission of the author.

Please direct all comments on this page to Ali Darwish.

Back to Home Page