Copyright © 2004 ِAli Darwish. All Rights Reserved.

Published concurrently in al-Manac (18 September 2004)

Impact of Technology on Language and Culture of Developing Countries

Abstract
(Full Arabic Text Below)

The rapid technological developments continue to have a great impact on the languages and cultures of the entire world. The impact is greater in "development-seeking countries" (DSCs) (usually known as developing countries) to the extent that their languages and cultures are being changed almost irrevocably. This is because DSCs, and more specifically the Arab countries, are increasingly becoming maladaptive to the new technologies and lacking in smart and consistent future-looking strategies. These DSCs are not in a position to adapt the new technologies to their language and culture in a manner that would enable them to preserve their linguistic, national and cultural characteristics and to endure the political, environmental, economic, cultural and technological global changes. Consequently, they fail to maintain their linguistic and cultural standards and to well-adapt to the borrowed consumer-driven technologies.

This paper examines the impact of technology on the language and culture of the Arab countries and the maladaptive features of superficially localized technologies.


أثــر التقنية في اللغة والحضارة
في البلدان المستنمية

 بقلم علي درويش

ما فتئت التحولات التقنية السريعة تحدث أثراً كبيراً في لغات وحضارات العالم برمته. وتتأثر لغات البلدان المستنمية وحضاراتها أكثر من غيرها تأثراً يكاد يكون سلبياً يطمس معالمها ويغيرها إلى غير رجعة. ذلك لأن تلك البلدان، ومنها العربية تحديداً، تتكيف مع التقنيات المستوردة تكيفاً أعوجَ وشاذاً، لا يستند إلى أسس واعية وسترجات ثابتة ذات أفق. فهي ليست في موقع يخولها أو يمكنها من تطويع وتكييف تلك التقنيات بما يحافظ على شخصيتها اللغوية وهويتها الوطنية وصورتها القومية وبعدها الحضاري، ويكفل استمرارها وديمومتها في عالم متغيرٍ سياسياً وبيئياً واقتصادياً وثقافياً وتقنياً، لا سيما في مجال المعلومات والحواسيب والتواصل الإعلامي، فتعجز عن مسايرة الأنماط والمعايير اللغوية والحضارية في بيئتها العربية الطبيعية، ويصيبها الضعف والوهن بعدما أصابها الذلُ والهوانُ الذي ما انفك يلحق بأهلها في كل بقعة من بقاع ذاك الوطن المشتت والممزق وما بعده.   

لقد لخصّ مؤسس شركة ديجيتال لأجهزة الحاسوب ورئيسها الأسبق كنيث أولسن في أواخر الثمانينات هذا الوضع، بكل غطرسة وتعجرف وكبر، في مقابلة أجرتها معه مجلة الاقتصاد والأعمال في ملحق خاص (نوفمبر 1988)، إذ قال، والترجمة للمجلة:  

"لدينا القليل مما يمكننا تقديمه للدول النامية ، لأن تلك البلدان النامية منغمسة في سياساتها الداخلية مما يجعل من الصعب عليها رسم أهداف واضحة تريد تحقيقيها. نحن نساعد حيث يوجد مشاكل نستطيع حلها ويريدوننا أن نحلها، لكننا لا ننجح كثيراً في العمل مع الحكومات... نحن حكماء بتجاهل هؤلاء الذين يشترون أجهزة كمبيوتر لحل مشاكل غير موجودة أساساً. هذا غالباً يحدث في بعض أجزاء  العالم الثالث".

وحال العرب اليوم لا تختلف كثيراً عن حالهم آنذاك، بل إنهم في وضع أكثر تردياً واستلاباً وتشرذماً، و{إنَّ هَؤلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} رغم أنهم تجاوزا ثلاثمائة مليون. فهم يتباهون كالطواويس بمنتجات استهلاكية مستوردة من الغرب، ويتنافسون فيما بينهم قطرياً وعبر الحدود والأسلاك والحواجز الشائكة التي فرضها عليهم الاستعمار فراقت لهم الأزقة والزوايا الكنتونية وطابت لهم القبلية والعشائرية، وأنِسوا لأعلامهم وراياتهم الخفاقة الواهية الزائفة، فإذا بهم يتبارون بسفسف الأمور وغث القشور، بأن هذا القطر يستخدم الهواتف النقالة الجوالة المحمولة السليولورية الخليوية أكثر من ذاك القطر وأن ذاك البلد يعتمد التقنيات الحديثة والحواسيب أكثر من ذلك البلد، وليس فيهم من شيخ أو ولد ينتج أو يصنع شيئاً محلياً، فحتى المساحيق التي تتبرج بها نساؤهم وثيابهم الداخلية والخارجية وحافظات أطفالهم ومربيات أولادهم وأكفانهم مستوردة من الخارج. ولطالما كانت سيوف الهند للعرب، فلا شيء جديد، ولا عجب! إذ ما زالت عقلية البدو الرّحل تسيطر عليهم، يطلبون الكلأ والعشب أينما كان، ويستهلكون مصادر الثروة ويبددونها في مشاريع آنية زائلة وممارسات فاسدة، وأبراج عاجية مذهبة و"قل لمن كان يفخر بالبنيان والشُّرَف...ما كان فخري بغير المجد والشَرَفِ".  فكأن تلك الثروات باقية بقاء الكون، فلا يعرفون مستقراً، ولا يخططون للمستقبل بحنكة ودراية، ولا يستغلون طاقاتهم البشرية إلا للنيل من بعضهم بعضا. ردود فعلهم عاطفية وانفعالية، وتصرفاتهم هوجاء عوجاء، يستكبرون ويستأسدون على أبناء جلدتهم ويصعرون خدودهم الذليلة لأسيادهم، فتجد الواحد منهم عنترة بن شداد أمام قومه، وفي مؤتمرات صحفية واجتماعات رسمية، فإذا وقف بين يدي سيده الأجنبي ذاب كما يذوب البزاق تحت وطأة الملح، وصار يتحدث برقة العذراء الخجول.       

ومن العرب من يؤمن إيماناً راسخاً بأن التقدم لا يتأتى لأولئك القوم إلا بالتخلي عن الموروث الاجتماعي والتراث الحضاري واللغوي عندهم. بل إن منهم من ينادي بشعوبية القرن الحادي والعشرين ويلجأ إلى اختبارات علمية لتحديد هويته وإثبات نقاء عرقه الأصلي وأرومته من خلال الحمض النووي والبصمات الجينية وغيرها من مبتكرات العلم الحديث، بغية الاندماج بالغرب، فكأنهم كالحية الرقطاء والجرو الصغير في الرسوم المتحركة الذي ينبهر بعِظَم الكلب البُلْدُغ، يرجوه أن يقبله ويرضى عليه. ولم نسمع عن أي شعب في العالم، لا سيما الشعب الإنجليزي والشعب الأميركي المتنوع والمتعدد والمختلف والمتفاوت في الأصول والأُرُوم والأعراق والأجناس والأديان، يبحث جاهداً في أصوله العرقية، وعن نسبة الجينات الوراثية في دمه، كما يبحث العرب العاربون الهاربون في الآونة الأخيرة، إذ لم تعد صفة العرب والعروبة موضة وصرعة يقلدها المقلدون ويحتذيها المحتذون، فراح بعضهم يبحث عن جذوره العرقية الغابرة ويحاول كسر القالب العربي الذي طالما وافر له منظوراً حضارياً ثابتاً يربط ماضيه بحاضره وحاضره بمستقبله. بل إن بعضهم يتهم العرب بالغزو والسلب والاحتلال وجرائم الحرب والمجازر الجماعية ضد الشعوب والأمصار التي نزلوا فيها. فلا تعجبوا أيها العرب أن تمثلوا ذات يوم أمام محاكم العدل الدولية!!! ولقد جاء دور القوة العظمى الوحيدة في العالم لتسلبهم عقولهم وتأسر ألبابهم وتغتصب بلادهم، فصادفتم أهلاً ووطئتم سهلاً!     

ولقد سيطرت اللغات الأجنبية على وجدان معظمهم، من نخب ضالة وفاسدة ومستلبة، وطغم حاكمة ومستبدة جشعة مستكبرة حمقاء، حتى لتجدن أحد كتبة القرن الغابر مهلهل البنيان، يحكي لنا قصص الذل والهوان، فيستهل كلامه بمفردات أجنبية إنجليزية وفرنسية ولاتينية تفسر كلامه العربي. فتخونه كلمة أخرق، وقد برعوا في الخٌرْق والغباء، فيلجأ إلى لفظ إنجليزي ليخرج من مأزقه اللغوي. فيخيل إليه أنه يتواصل مع أبناء جلدته بمصطلحات وكلمات أجنبية قد يعرفونها أو لا يعرفونها، فهذا أمر ثانوي. فإذا هو في وادٍ وهم في وادٍ، وكلاهما في وادٍ غيرِ ذِي زَرْع.

وكلما ظننا أنهم بلغوا مبلغاً من الحماقة اللغوية وتربعوا على عرش الغباء فاجأونا بحماقة أشد وأكثر حمقاً وجهلا. فمن الحماقات التي تتناهى إلى أسماعنا عبر الفضائيات قولهم "أغنية ضاربة" في ترجمة لا حماقة قبلها ولا بعدها للعبارة الإنجليزية (hit song). ولقد بلغ منهم التلحيس والتدليس والاستهتار واللامبالاة أقصى مداها، فلا يجرؤ حريص أو غيور، إن بقي هناك أحد، على لفت انتباههم والتدقيق فيما يقذفون به من قاذورات لغوية إلى المشاهدين والمستمعين. وينفطر القلب حسرة ولوعة وأسى لسماع وزير تربية عربي وهو يدشن جامعة عربية عصرية في دولة عربية كنا نخالها صلبة العود في اللغة وفي الحفاظ عليها، وخطابه يعج ويضج بالأخطاء والأغلاط النحوية التي يتعلم المرء تجنبها في المرحلة الابتدائية. بل إن المأساة الحقيقية إذا تتبعت كلامه وإنشاءه وتراكيب جمله وأنماطها الفكرية وجدته في معظمه مترجماً ترجمة حرفية عن الإنجليزية. فلعل من كتب له خطابه وكلامه المنمق والمرصع بالفواحش اللغوية قد سرق ذلك من موقع إنجليزي على الإنترنت في وَضَحِ النهار أو في جِنْحِ الليل، فجاء كلامه أعجميّ الفحوى عربي الصوت أجش. وذاك ممثل دولة عربية في الأمم المتحدة يتخبط في الجار والمجرور والفاعل والمفعول، ولا يرى حرجاً في ذلك فيخصص بعضاً من وقته في اكتساب المعرفة اللغوية حتى يمثل بلاده تمثيلاً حسنا. بل تراه يستعرض عضلاته اللغوية في اللغة الإنجليزية، لغة أجداده وآبائه،  فتجده أشد تعاسة وبلاهة فيها، وهو مغيب الفكر والوعي على نحو يندى له الجبين.       

ويتفاوت تأثير اللغات الأجنبية في اللغة العربية من مجرد مصطلحات لمفاهيم جديدة، سواء أكانت تلك في مجالات التقنية الحديثة والعلوم المتخصصة أم في نواحٍ ومظاهر أخرى من الحياة اليومية، إلى اقتراض تعابير اصطلاحية خاصة بتلك اللغات الأجنبية، إلى حروف الجر. فالأسماء المصدرية على سبيل المثال، تأثرت بالأشكال الصرفية للغة الإنجليزية تحديداً فصارت تُجمع كما تجمع نظيراتها في تلك اللغة؛ فنجد اليوم في كتابات مؤلفين مرموقين ورواة بارعين ألفاظاً تخالف القياس والعرف اللغوي، منها على سبيل المثال لا الحصر: نجاحات وإخفاقات وتفضيلات واستشارات مقابل (successes) و(failures) و (favourites) و(consultations بدلاً من اعتماد التبعيض في اللغة. ولم تلجأ الإنجليزية مثلاً إلى القول (informations) عندما نقلت اللفظ عن الفرنسية، على رغم ما تتميز وتمتاز به من ليونة وسلاسة، بل عاملته كلفظٍ جامعٍ مفرد، واعتمدت التركيب البعضي للتعبير عن أجزاء منه، نحو: pieces of information. وتأثر العرب كذلك بصيغة المجهول في الإنجليزية فنسمع تراكيب عجيبة نحو: حُكم العراقٌ بواسطة صدام، ترجمة للجملة (Iraq was ruled by Saddam.). ولو أنعمت النظر وأمعنته وتمعنت قليلاً لاتضح لك أن المعنى المقصود من تلك الجملة، وهو أن صدام حكم العراق، قد ضاع ضياعا. فاستعمال الجار والمجرور (بواسطة) مقابل كلمة (by) في الإنجليزية يفيد بأن العراق قد حكمه شخص آخر بواسطة صدام وليس صدام نفسه (ولعل هذا أقرب إلى الواقع). وهذا مجرد مثال على النقل الاعتباطي والتأثر الأحمق باللغة الإنجليزية وتراكيبها الحرفية وتعطل الوعي عند جمهرة كبيرة من المترجمين والإعلاميين المسترجمين.  

وتأثر العرب تأثراً كبيراً ملحوظاً بالمنظور العمودي الإنجليزي الحرفي في التعبير عن الشدة والحدة والعِظم فقالوا (نوعية عالية) مقابل (high quality) و(توتر عالٍ) مقابل (high tension) و(كثافة عالية) مقابل (high density)، و(قدرة عالية) مقابل (high capacity) أو (high ability)، وغيرها من ألفاظ وعبارات وجدت طريقها إلى وجدان المثقفين العرب وتأصلت في كتاباتهم وعباراتهم العادية العامة ومصطلحاتهم التقنية والفنية. والواقع أن هذه التخريجات كلها تخالف المنظور العربي الأفقي والقياس اللغوي الذي يقضي بالقول: نوعية بالغة أو فائقة[1] وتوتر شديد وكثافة شديدة. تأمل الأمثلة الآتية لاستعمال لفظ (عالية) في مواضع مختلفة تخالف كلها المنظور العربي، والكل ينطح عالياً ولا ينتح خجلاً.   

عن الامتداد الأفقي للمقاومة العراقية فإن أساليبها أصبحت ذات نوعية عالية ليس من السهل على قوات الاحتلال السيطرة عليها أو حتى توقعها...

 

وكذلك نستخدم مثبتات ألوان من نوعية عالية الجودة والتي تودي بدورها إلى إطالة أمد وعمر اللوحة الإعلانية...

 

إن الإنسان في كل مكان في العالم من حقه أن يعيش حياة كريمة أشبه بتلك التي يعيشها الإنسان في أوروبا أو أميركا من حيث الدخل وفرص العمل والتدريب والسكن ويتلقى خدمات ذات نوعية عالية من دولته ويشارك في صنع قرارته السياسية والاقتصادية.

 

اليورانيوم المستنفد هو أحد مشتقات اليورانيوم الطبيعي، ويعبأ به نوع من القنابل تطلق من المدافع أو تلقى من الطائرات المقاتلة، وله قدرة عالية على إذابة المواد الصلبة الخرسانية والمدرعة.

 

قرأت ذلك في عينيه وتفاصيل وجهه، لكني أعلم أنه إنسان قوي وذو قدرة عالية على التحمل...

 

بطاقات ذات كثافة عالية. جهاز كامل لعمليات التوافق... 

 

عالية التكلفة وتحتاج إلى تقنيات عالية لتشغيلها...

 

بناء الصناعة عالية الفعالية للطاقة الكهربائية يتطلب أولا وقبل كل شيء الإسراع في بناء مشاريع الكهرباء وحفز التنمية المتناسقة بين عمليات إنتاج الطاقة الكهربائية ونقلها واستخدامها...

   

وتأثر العرب كذلك بالظروف والنعوت في اللغة الإنجليزية، فقضوا على المفعول المطلق والحال والتمييز والنعت السببي مستسلمين لطرائق تلك اللغة في التعبير عن الظروف وغيرها، فيكثر استعمال (بطريقة، أو بشكل، أو بصورة) نحو:

 ركب الجهاز بطريقة صحيحة.            Install the device correctly. 

بدلاً من: ركب الجهاز تركيباً صحيحاً. وذلك تأثراً بالتعريف المعجمي في اللغة الإنجليزية للظروف فيها (in a ~ manner).  

إن استعمــال المنتج بطريقة صحيحــة يؤدى إلى نهايــة سعيــدة للمستخدم ...

 

على الحكومة السورية الجديدة أن تتعاطى بشكل مختلف مع الملف اللبناني...

 وتأثروا كذلك بصيغة النعت والمنعوت على حساب الجار والمجرور والإضافة اللفظية، لا سيما في النعت المصدري المنسوب. فتجدهم يقولون (حادث مروري) بدلاً من (حادثُ سير) أو (حادثُ مرورٍ) في ترجمة هزيلة باهتة خرقاء للصيغة الإنجليزية (traffic accident)، وكذلك (وضعٌ كارثيٌّ) بملء الفم والشفاه الغليظة المضادة للصدمات والشدق المرخي والحدق الجاحظ، بدلاً من (وضعٌ كارثٌ) أو مجرد (كارثُ)، في ترجمة للصيغة الإنجليزية (catastrophic situation) أو الفرنسية (situation catastrophique)، لدى المفكرين والأكاديميين المفرنسين المبرنسين المفرنكين. وإنه لمصاب جلل! إليك بعض الأمثلة المتفرقة:

مصرع أسرة مصرية في حادث مروري بالسعودية...


سبعة قتلى في حادث مروري في الدار البيضاء
...

 

تعرض إلى حادث مروري بسبب امرأة أميركية مخمورة اجتازت الإشارة الحمراء...

الوضع الفلسطيني كارثي والمعالجات تكاد لا تذكر...

 

الإعلان عن مشروع كارثي جديد...

 

تعيش الولايات المتحدة تحت وطأة سيناريو كارثي يقوم علي تحرك إرهابي معزول أو خلية صغيرة لتسديد ضربة مفاجئة علي الأراضي الأمريكية...

 

الصليب الأحمر: مستشفيات بغداد في وضع كارثي

 

فكأنهم كلهم شربوا من نبع آسن واحد!   

واللغة العربية تميل بطبيعتها إلى الإضافة لتخفيف اللفظ، إذا لم يتوافر فيها نعت صحيح أصلي، وتأنف بالسليقة من النعت المصدري المنسوب. ولكن العرب اليوم، وبخاصة الإعلاميون والمفكرون منهم الذين على ما يبدو قد غسلت أدمغتهم بمسحوق اللغات الأجنبية وتهرأت سليقتهم، يصرون إصرار الأعجمي على النعت والمنعوت، لاسيما النعت المصدري المنسوب والنعت المشتق من الاسم المنسوب. وهذا مدعاة للفخر والاعتزاز فهو من باب التجديد في اللغة واللحاق بركب اللغات المتقدمة والمتطورة، كما يتصورون ويتوهمون. فاللغة حية متطورة بمقدار تطور أهلها والناطقين بها. ولكن مفهوم التطور عندهم مفهوم كسول بليد أخرق، تعوزه الثقة بالأصول. وليس كل متغير متطوراً! وليس كل متطورٍ حميداً ومحموداً. وينسى هؤلاء أن لفظ (التطور) يعني في الأصل التحول من حال إلى حال، وقد يَحُولُ الشيءُ بعد استقامته، والرأيُ بعد رجاحته.

أما تأثرهم بحروف الجر فإنه يدل على استسلام كامل لغريزة الاستلاب التي برع العرب بها في القرن العشرين وتفننوا بها في مطلع القرن الحادي والعشرين. فنجدهم يصرون إصرار الجاهل الأحمق في الإعلام الباهت وغيره، على القول (أهلاً بكم إلى نشرة الأخبار)، بدلاً من (في نشرة الأخبار)، في نقل حرفي لحرف الجر (welcome to)، و(مقارنة مع)، بدلاً من (مقارنة بـــ)، في نسخ سخيف ضعيف لا مبالٍ لحرف الجر (with) من العبارة (in comparison with)، و(عجز في) بدلاً من (عجز عن) من العبارة (fail in)، و (تحت الإنشاء) بدلاً من (قيد الإنشاء) في هدم عابث سافر ونقل بائس فقير جائر لحرف الجر الإنجليزي (under) من العبارة (under construction)، وكذلك (تحت العلاج) بدلاً من (في العلاج) أو (قيد العلاج) من العبارة (under treatment) و(تحت القانون) بدلاً من (بموجب القانون) من العبارة (under the law)، و(تحت قيادةِ...) بدلاً من (بقيادة) من العبارة الإنجليزية (under the leadership of…). وجميعها عبارات تصدر عن رجالات دولة، ومفكرين مرموقين، وإعلاميين صناديد، وحالهم كحال القرد والنجــار و(monkey see, monkey do). ولو تأملنا لحظة عبارة (تحت الإنشاء) أولاً، بما يتسع له المجال هنا، لوجدنا أنها مخالفة للمنطق اللغوي العربي السليم، وأنها من أخطاء الترجمة فيما يختص بالكلمات المتصاحبة أو المتلازمة، أو ما يعرف في الإنجليزية بـ (collocation)، ولكنها تتفشى في العربية المعاصرة كما يتفشى السرطان اللئيم في جسم المريض، فتجدها في الدوائر الرسمية والمؤسسات التربوية والمراكز العلمية وشبكات الإنترنت وأنى وجهت وجهك في مجالات النشاط الإنساني العربي. بالمقابل، لو أنك أخطأت في الكلمات المتلازمة في الإنجليزية مثلاً، لنظر إليك أصحابها شزرا وأعرضوا عنك ووضعوك فوراً في قائمة الأوباش أو "الأوغاش" (أو ما يعرف في الإنجليزية بـ WOGS)، مهما تبلغ فصاحتك وبلاغتك، وسواء أتكلمت بلكنة محلية أو أعجمية بشكل طبيعي أو متكلف — وقد اشتد في الآونة الأخيرة تركيزهم على مفهوم لغة الأم في ظل العولمة وتعدد الحضارات والثقافات. أما العربي فتجده يتلوى غنجاً ودلالا ويحرص كل الحرص دون جدوى على التمكن من لغة أجنبية، فلا يناله منها سوى النزر اليسير، وينتهك عِرْضَ لغته ويضرب بها عُرْضَ الحائط ويلحن فيها كما يلحن مطربو الأغاني الضاربة! إليك بعض الأمثلة:

ما زال هذا المركز تحت الإنشاء...

 

عذراً الموقع ما يزال تحت الإنشاء...

 

المعرض تحت الإنشاء وينتظر مشاركة الزوار...

 

ناقلات تحت الإنشاء...

 

المرأة ليست "تحت الإنشاء" وبعض الأديبات يتفوقن على الرجل لدينا...

 

دعني أقف عند كلمة المرأة تحت الإنشاء وكأن المقصود منها أن بناءها سيكتمل يوماً بعد آخر في حين أن المقصود هو الأعمال النسائية وليس الإنسان فإن كان المقصود هو المرأة العربية أو المسلمة بشكل عام...

ويكمن الخلل في أن الإنشاء هو إحداث الشيء. فإذا أنت أنشأت الشيء أوجدته ورفعته ، فكيف يكون الشيء المرفوع تحت الإنشاء؟  ولو تأملنا كذلك عبارة (تحت القانون)، لوجدنا أنها تنتشر انتشاراً مخيفاً في العربية المعاصرة. إليك بعض الأمثلة:  

يعني الجميع تحت القانون، أياً كانت انتماءاتهم، بصرف النظر عن انتماءاتهم السياسية الجميع تحت القانون...

 

تحت القانون الإسلاميّ يحرم الناس من الشّراب، عزف الموسيقى، قراءة الأدب عن الفلسفة...

 

ستكون محكمة آخر مرحلة بالنسبة للتقاضي والمحاكمة تحت قانون جنوب السودان شاملاً القانون الوضعي والعرفي باستثناء أن أي قرارات تنشأ تحت القانون القومي سوف تكون خاضعة للمراجعة وقرار من المحكمة العليا القومية...

 

يوضح هذا التقرير أن عدد كبير[2] [كما وردت في النص الأصلي] من العمال المهاجرين لا يعلمون الحقوق المتاحة لهم تحت القانون الموجود حاليا.

 

والحقيقة يا قومَ هاجوجَ وماجوجَ أن القانون هو مجموعة "قواعد وأحكام يتبعها الناسُ في علاقاتهم المختلفة وتنفِّذها الدولة أو الدول بوساطة المحاكم وغيرها"، ويعملون بموجبها وليس تحتها. هذا هو منظور اللغة العربية، وهو منظور أفقي. ولكن أولئك الذين ألفوا الاستبداد والطغيان والمسكنة لم يجدوا حرجاً في استعمال الترجمة الحرفية المطلقة ولم يروا مانعاً يمنعهم من ذلك. بل سيطرت عليهم وعلى عقولهم وألبابهم أشكال اللغات الأجنبية. فحتى النصوص المترجمة والموضوعة التي تلتزم بقواعد اللغة تخالف طبيعة الإنشاء العربي. تأمل المثال الآتي: 

إنّ والديْ الطفل الذي أظهر الفحص أنه مصاب بالربو يمكن أن يصابا بالضيق والأسى لخوفهما من أن طفلهما قد لا يستطيع أن يعيش حياة طبيعية، قد يحتاران فيما عليهما عمله لدبر الأمر إذا أصيب طفلهما بنوبة ربو.

ولا شك أن هذه الجملة الملتفة الإسناد ليست من العربية في شيء وإنْ لم تخالف قواعد اللغة والنحو من رفع للفاعل ونصب للمفعول وجر للمجرور وغيرها من أمور. وبين مطلعها ونهايتها قمنا إلى أشغالنا وانصرفنا إلى أعمالنا وأكلنا وشربنا ونمنا وعدنا ومازال صاحبنا يلتف ويدور ويحور!   

ولو نظرنا إلى عبارة (تحت العلاج) لوجدنا أنها تخالف الاصطلاح في اللغة، فعلَجهُ يعلُجهُ عَلْجًا غلبهُ في المعالجة، وعالجهُ معالجةً وعلاجًا زاولهُ، وعالج المريضَ داواهُ. والعِلاَجُ هو الممارسة والمزاولة؛ والدَّواءُ. فكيف يكون الشيء تحت العلاج؟ ولكنها كسابقتها تنتشر اليوم في العربية المعاصرة ولا تستوقف أحداً. فلا بد أنهم مشغولون بالدردشة على الهواتف "النقجالة" (نقالة جوالة)!   

ولكننا لم نتوصل بعد لعلاج سرطان الكبد، كما أن الحالات التي وصلتنا كانت متأخرة ويصعب علاجها، وهناك حالات ما زالت تحت العلاج.

 

...وسيحتاج قليل من المرضى فقط إلى البقاء تحت العلاج والملاحظة في غرف المستشفى الداخلية، وهؤلاء في الغالب مرضى الحالات المعقدة أو المتطورة مما يجعلهم في حاجة إلى علاج مكثف أو جراحة...

 

أما مرضى السكر الذين هم تحت العلاج فإن الحامض الكيتوني غالبا ما يصيبهم نتيجة إهمال في العلاج وعدم أخذ القدر الكافي من الأنسولين، أو حدوث التهاب ميكروبي شديد أو مضاعفات وضغوط شديدة مثل الإصابة بجلطة بالقلب أو المخ أو حادث أو عملية جراحية....

 

وقد قال العرب: على قيد الحياة أو بقيد الحياة، وقيد الدرس. أما قولهم (تحت الدراسة) فهو صحيح منطقياً، من درس يدرس دراسة بمعناه الأصلي (دَرَسَ الشيءُ والرَّسْمُ يَدْرُسُ دُرُوساً، أي عفا وامَّحَى)، وما يعفو رسمه لا بد أن يكون تحت وطأة الشيء! فموضوع الدرس يكون تحت الدرس. أما العلاج من المعالجة فلا يكون عمودي المنظور.  

ولو أمعنا النظر كذلك في عبارة (تحت قيادة) لرأينا أنها مخالفة هي الأخرى للقياس والمنطق اللغوي في العربية. ففي المتعارف أن القيادة هي السوقُ من: قَادَ يَقُودُ قَوْداً وقِيَاداً وقِيَادَةً الدَّابَّةَ وغيرها: مشى أمامَها آخِذاً بمقودها. فكيف يكون من يمشي وراء القائد تحته؟  

تولد الاستعداد الأمريكي المفاجئ للتفكير في نشر قوات متعددة الجنسيات في العراق تحت قيادة الأمم المتحدة، عن حاجة وليس عن رغبة.

 

العراق سيبقى تحت قيادة عسكرية أميركية موحدة لمدة عامين على الأقل...

 

الدفاع الشعبي قوات أنشئت بموجب قانون الدفاع الشعبي ويتم تعبئتها في أحوال التهديد الأمني الجسيم بوصفها قوات احتياط تستكمل قواتنا المسلحة وتكون نسبة استكمالها حسب الطلب لمواجهة الأوضاع الأمنية وهي تجربة سودانية راسخة وتعمل هذه القوات باستمرار تحت قيادة ضباط تحت قيادة القوات المسلحة...

 

ورفضت فرنسا الضغوط الأميركية لتولي قائد «تابع لقيادتين» يقدم تقاريره إلى كل من قيادة حلف الأطلسي والى قائد أميركي وقالت إن الحلف لا يمكنه أن يكون مرؤوسا تحت قيادة أحد أعضائه.

هذا ما أتحفونا به على مدى عقود من الزمن فظنوه تجديداً في اللغة في فترة كثر الاعتماد فيها على الترجمة. وما فتئوا يغدقون بحماقاتهم اللغوية علينا فيرددها المرددون ويكررها المكررون دون وعي وإدراك بأنها ترجمات مغلوطة حمقاء. ولا يسع المرء سوى أن يشعر بالغبن لما كان يتلقاه في صغره وعلى مقاعد الدراسة وفي الكتب والصحف من أولئك الغشاشين والأغبياء والحمقى والجهلة الذين ما انفكت تعوزهم الأمانة العلمية والوعي والإدراك والذكاء اللغوي، ولكنهم لا يفتقرون إلى البطش والحنكة والدهاء. وما زلنا نراهم وإن من بعد، يكيلون الحماقة كيلا ويكرسون الجهل بممارسات لغوية مستهترة عابثة مستخفة، فتسمعهم يقولون في برامج تلفازية (فرصة بدينة) ترجمة للمصطلح الإنجليزي (fat chance). فلعلنا نرسل الفرصة إلى أندية النحافة في عالم متخم بالحماقة والغباء.  

وما هذه المشكلة إلا بسبب النقل الأعمى والتأثر الأحمق باللغة الإنجليزية وأنماطها وأشكالها الحرفية دونما أدنى فهم لخصائصها الوظيفية والاصطلاحية والبيانية، فلفظ (under) في الواقع لا يعني (تحت) بمعناه الوظيفي الذي سبق. ثم يستوون على عروش جهلهم وغبائهم وغرورهم فلا تطأ أقدامهم العاجزة الهزيلة أرض الواقع. ومَلّكْ ذا أمرِ أمرَه.  

ولم يبق لنا سوى أن نقترض الضمائر من اللغة الإنجليزية، فلعلنا نسمعهم يقولون في فضائيات عتريس ولويس ودعجان، "شي قالت في مؤتمر صحفي"، و"هِيْ صرّح، وذاي قتلوا"...الخ. وكيف لا؟ أفنحن أقل كعباً من الإنجليز الذين اقترضوا، في حالة لغوية شاذة، ضمائرهم (he, she, they, etc) ومشتقاتها من اللغة النوريجية القديمة! ولم لا، ونحن قد بعنا ضمائرنا، وما لنا وما علينا. أفنبخل بضمائر اللغة؟    

ولقد سطر المترجمون العرب في العصر الحديث ملاحم الغباء والجهل بالتصاقهم الحرفي بما ينقلونه من أشكال مختلفة من المعارف وبغياب المعرفة اللغوية لديهم، سواء أكان ذلك في اللغة التي ينقلون منها أو في لغة أمهاتهم وآبائهم وحاضناتهم الأجنبيات. وظئرٌ رؤوم خيرٌ من أم سؤوم. فتجدهم في غالبيتهم يفتقرون إلى أبسط قواعد النحو والصرف. وكلهم في خبر كان. فيخفقون في بديه الأمور وهم لا يشعرون. فلا يعرفون الفرق مثلاً بين (التوأم) و(التوأمين) و(التوائم) وأن التوأم هو المولود مع غيره في بطن واحد؛ وأن للتوأم توأماً وأنهما توأمان لا توأم واحد، اللهم إلا إذا جُبِلا جَبْلا! 

ووضوح الكلام يقتضي وضوح اللفظ. فمن شروط الإنشاء الواضح تجنب الألفاظ التي تحتمل أكثر من معنى واحد. فلمَ الإصرار على لفظ (التوأم) والذخيرة اللغوية متوافرة تكفل وضوح الكلام؟  تأمل الأمثلة الآتية:

وكان التوأم حسن وحسين وصلا في شهر يوليو الماضي من قريتهما غرب السودان الى أبوظبي بعد أن تقدمت اسرتهما الى الفريق الطبي الذي كان يقوم بزيارة الى السودان ضمن حملة ''زايد الخير''·

وقد أجريت للتوأم عدة فحوص لدى وصولهما الى مستشفى المفرق وشهدت المرحلة الماضية اخضاعهما لعملية شد للجسم حيث تم وضع موسعات للانسجة تحت الجلد وذلك حتى يمكن تغطية الانسجة بعد الفصل الجراحي هذا بالاضافة الى انه تم اجراء عملية استئصال حصوة من مثانة حسن التي كانت تسبب له آلاما اثناء التبول ·

وقال الدكتور أمين الجوهري رئيس قسم الأطفال بالمفرق والمشرف على حالة التوأم ( حسن وحسين )، ان الطفلين يتلقيان العناية الكاملة والاهتمام المتواصل بناء على تعليمات سمو الشيخ حامد بن زايد آل نهيان رئيس مجلس ادارة الهيئة العامة للخدمات الصحية لإمارة أبوظبي الذي وجه باتخاذ كل الاجراءات والتدابير المطلوبة لانجاح العملية المقرر اجراؤها في اكتوبر المقبل ·

لاحظ هنا اضطرار الكاتب إلى ذكر الاسمين بعد لفظ التوأم إيضاحاً للقارئ بأنه يقصد حالة التوأمين وليس أحدهما. لاحظ كذلك استعمال المثنى على نحو نابٍ بعد لفظ (التوأم).

واعتقد الأطباء أن عملية فصل التوأم الملتصقتين عند الرأس لن تستغرق أكثر من ستة وثلاثين ساعة. وولد التوأم في مايو أيار ملتصقتين عند الرأس وتتشاركان في تجويف الرأس، ويتعين فصلهما حتى تتمكنان من الحياة بصورة طبيعية.

لاحظ هنا الغموض في الجملة وكيف استخدم الكاتب/المترجم لفظ (التوأم) للإشارة إلى التوأمتين.[3]  تأمل المثال الآتي:

 

التوأم المصري يشاهدان بعضهما للمرة الأولى...

 

تمكن التوأم المصري أحمد ومحمد واللذان كانا قد فصلا عن بعضهما البعض في عملية جراحية من رؤية بعضهما وجها لوجه للمرة الأولى.... وقال وماس مدير إن محمد إبراهيم البالغ من العمر عامين متنبه أكثر من شقيقه أحمد ويبدو أنه تعرف على توأمه...

ولا شك أن ثمة خللاً في التسلسل المنطقي في الإشارة إلى التوأمين باستعمال لفظ (التوأم) تارة وإلى أحدهما باستعمال اللفظ المفرد نفسه (التوأم).

وتظهر هذه الأمثلة جمود الأسلوب وتحجره وتشبث الكتبة والمترجمين بقواعد مجزوءة تعلموها ذات يوم وما برحوا يطبقونها.  وفي لغة تحرص على الإسناد الواضح وربط الكلام ربطاً منطقياً عبر المفرد والجمع والمثنى والمذكر والمؤنث، تتعطل فجأة قدرة الكاتب المترجم وتصاب بالشلل.

سيدة ليبية تنجب سبعة توائم في الأردن...

فإذا كان التوأم فردين فهل أنجبت تلك السيدة أربعة عشر طفلاً؟ بالطبع لا. ولكن كما يقول المثل العامي اللبناني (لا تدر دابرك للدبابير وتقل تقادير).  أما في المثل، فلا ندري إذا كان إظهار جنس التوائم لرفع الغموض عن الجملة أم زيادة معلومات.

وضعت سيدة سعودية ثلاثة توائم هم ولدان وبنت بمستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث بجدة بعد عقم استمر لأكثر من سبع سنوات.

والطريف في هذه الجملة أن الكاتب خص الذكر بلفظ (ولد). ولفظ (الولد) كلفظ (التوأم) للذكر والأنثى. فكأن كاتبنا يقول: وضعت سيدة سعودية ثلاثة توائم هم ولدان وولد، فالصبي ولد والبنت ولد. فبز الكاتب المترجم أقرانه بجمعه اللفظين (التوأم) و (ولد) في جملة واحدة مفيدة. 

خذ أيضاً ترجمتهم المتكررة في الآونة الأخيرة لعبارة (Federal Bureau of Investigation)، في أحد البرامج الوثائقية المستوردة من أميركا والمترجمة في إحدى المحطات التلفازية الفضائية، وهي (مكتب المباحث الفيدرالية). لاحظ هنا كيف أعادوا صفة (federal) إلى (investigation) وجمعوا الأخيرة، بدلاً من القول (مكتب المباحث الفيدرالي)، إن شئنا اعتماد لفظ (المباحث) مقابل (investigation). فلا يخفى على لبيب ومبتدئ في اللغة الإنجليزية أن الصفة (federal) تصف (bureau) وليس (investigation). ولكنهم يأنفون من رصف النعوت، فيبيعون الدنيا وما فوقهم وما تحتهم حتى يتجنبوا ذاك التركيب الفصيح، وإن كان ذلك على حساب سلامة الكلام وصحة النقل والترجمة، لا لشيء وإنما لعدم دراية وتجنباً للفضائح اللغوية والعيوب التي تكشفها تلك التراكيب والصيغ الإنشائية، فيما يعرف بسترجة التجنب أو (avoidance strategy).  ويبدو أنك إذا قلت أي شيء سخيف ومغلوط وساقط بكل ثقة وفخر واقتناع يصبح ذلك صحيحاً وسليماً ومقبولاً عندهم.  

ولا بد من الاستطراد هنا والتعليق على تلك البرامج الوثائقية تعليقاً عابراً ولكن في محله. فتلك البرامج الوثائقية التي تكون في معظمها سياسية وتاريخية — فقد أولع العرب بالسياسة والتحليل الانفعالي — يتم بثها وكأن المحطات التلفازية التي تبثها قد تبنت محتواها والمواقف التي تطرحها، والتي تكون في صلبها مخالفة للمواقف الوطنية والقومية للعرب والمستعربين. في المقابل، نجد مقدمي البرامج الأخرى المنتجة محلياً، والتي تعرض لمسائل ومشكلات وثيقة الصلة بالواقع العربي ومآسيه وكوارثه ومصائبه ومحنه وأزماته، يعتصرون الفكر ويجهدون في إخطار المشاهد بأن الكلام ليس لهم وليس للمحطات التي تبث تلك البرامج، بل هو لأحدهم. ولعل أحدهم كان يمر أمام هذه المحطة أو تلك فأبدى رأيه صراحة وعلناً ودون خوف أو منة. 

ولو نظرت إلى وسائل الإعلام العربية الأرضية منها والفضائية لوجدت أنها على حبها لذاتها ونرجسيتها ورسمها دوراً كبيراً مهماً لنفسها في "التطوير والإصلاح والتغيير" في الوطن العربي، ولا ندري من نصبها لهذا الدور، لوجدت أنها نسخ كربونية لنظيراتها الغربية، تحدها أشكال تلك الوسائل وتقنياتها وطرائق عرضها وتناولها للمواضيع المختلفة والمتفرقة، سواء أكان ذلك في تقديم الأخبار، أم في البرامج الأخرى، وتؤثر فيها وفي مناظيرها الحضارية واللغوية. فكأن التطور والتحرر لا يتأتى إلا بتقليد الغرب لا في الجوهر وإنما في القشور. فتجد المذيع في نشرات الأخبار مثلاً يجلس على اليمين وشاشة تلفاز التحاور مع المراسلين أو الضيوف على اليسار؛ تماماً كما تفعل المحطات الغربية. وتُستخدم زوايا الكاميرات نفسها، فلا تفرق كثيراً عن أصولها المستنسخة. ولكن من قال إن الصيغة الغربية في الإعلام هي الصيغة المثلى لكل البشر والحضارات والشعوب والثقافات؟ بيد أن هذه المحاكاة هي جزء مهم من العولمة والاستنساخ وعامل رئيس في عملية التطبيع والتكييف اللاشعوري مع معطيات الواقع. فمن برامج عناوينها إنجليزية تخاطب الصغار والكبار، وتغرس فيهم حضارة القشور، وتعنى بسفسف الأمور، إلى مشادات ومناوشات لا تكون الغلبة فيها إلا لمن يبز أقرانه بالصراخ والزعيق والمصاولة في منتديات أجنبية التركيب تنتهي بمصافحة الأنداد إظهاراً للمدنية والتطور بإيعاز وغير إيعاز، إلى نشرات أخبار باللهجات العامية التي لا تكرس الشخصية المحلية، كما يحسبون ويخالون، بل الجهل والأمية وانفصام العرى الوطنية والقومية، في بلاد تسعى للمصالحة الوطنية ودفن الأحقاد، إلى شريط أخبار حية في أسفل الشاشة يقلد ويحاكي الصيغة الأميركية في عرض الأخبار، روحاً وقلباً وقالباً وألواناً، تشتد فيها الترجمة الحرفية والأخطاء اللغوية وعدم الاتساق في الإملاء وصياغة الخبر، وفقاً للمترجم المناوب وانتمائه القطري. وهذا أمر فاتهم في انهماكهم في تقليد معلميهم، بأن للاتساق وثبات الأنماط أهمية كبرى في تعزيز الثقة في ما يتلقفه المشاهد، وانتهاء بنشرات الأحوال الجوية. ونختم على نوت حزين، على حد قول أحد المفكرين، ترجمة اعتباطية للتعبير الإنجليزي (to end on a sad note وإصرار المحطات على استخدام الإناث الحسناوات اللواتي يسرّ جمالهن البلاستيكي الناظرين، في بلاد صار ركنٌ منها محجة للجراحة التجميلية في رد فعل لا واع للعقد النفسانية التي خلفتها الحروب الأهلية العابثة. والمذيعات لعب الإعلام فلتزين كل فضائية لعبتها في بلاد تسعى إلى تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية بين الرجل والمرأة. فتجد تلك النسوة اللواتي يطالبن بتلك الحقوق التي سلبهن إياها مجتمع ذكري في برامج مخصصة لهن، وقد تحولن بين ليلة وضحاها إلى دمى منسوخة غريبة المناظر، فكأن تلك الفضائيات قد أرسلتهن إلى مزارع خاصة وعهدت بهن إلى مجرم حرب فعدن وفي وجوههن أثر العبث! ولا نحاول هنا أن "نضع معولاً في العمل"، على حد قول أحد المحللين العباقرة العرب مؤخرا، ترجمة حمقاء للتعبير الإنجليزي (to put or throw a spanner in the works)، بل نأسى ونأسف لتلك الحال التي وصل العرب إليها في تقليدهم للغرب. وقديماً قيل الطريق إلى قلب الرجل عبر معدته. ولعل الطريق إلى الديمقراطية تكون عبر السليكون!        

ومن المفارقات التي نراها كذلك في تلك الوسائل ردود فعلها الارتكاسية والفورية. فما أن أعربت الإدارة الأميركية عن استيائها من عرض القنوات الفضائية العربية صور جثث المختطفين الأجانب في السعودية والعراق حتى سارعت تلك القنوات إلى استهلال نشرات أخبارها الخاصة بأولئك المشؤومين  بعبارة: "نعتذر لعدم عرض الصور مراعاة لمشاعر المشاهدين"، في تقليد سخيف لطرائق الإعلام الغربي. ويتساءل المرء عن هذا الحرص المفاجئ على مشاعر المشاهدين، والنشراتُ ذاتها تُظهر صوراً لجثث القتلى والشهداء العرب مقطعة الأشلاء والأوصال في الموجز الاستهلالي، وعند قراءة الخبر وعرضه، وفي الموجز الختامي للنشرة، دون مراعاة لمشاعر المشاهدين، أو ربما لذوي أولئك الشهداء والأبرياء، فكأن مأساتهم وفاجعتهم مباحة للجميع؟ فلماذا تراعي تلك القنوات مشاعر المشاهد الأجنبي الذي لا يشاهد القناة الفضائية ولا يعرف لغتها، أو ربما المراقبين والمحللين في أروقة المؤسسة الأميركية، من جهة، ولا تأبه لمشاعر مشاهديها العرب من جهة أخرى؟ فإذا بها تكرر صوراً لضحايا القصف والإبادة والدمار أمام أعين المشاهدين. فما هو المغزى الإعلامي والفائدة الفلسفية والاجتماعية والسياسية لتلك اللقطات المصورة الحزينة المتكررة للجثث المهشمة والجماجم المحطمة والأجساد الممزقة والأطراف المقطعة في دعايات لتلك القنوات؟ وما هو الهدف الإعلامي النبيل من إظهار أم عربية ثكلى تعانق رأس ابنها المقطوع في بحر من الدماء؟ أم أن هذا جزء من عملية التطوير والتغيير والدمقرطة في العالم العربي عبر الفضائيات؟

إن الإعلام الفاعل والذكي لا يركز على التفاصيل الوحشية والمرعبة والمقززة والمثيرة للأحاسيس المتضاربة والانفعالية، بل يدرك القوة الإيحائية للقطات المصورة الإجمالية الشمولية، أو "رأس جبل الجليد"، على حد قول رئيس تحرير إحدى الصحف العربية المرموقة في ترجمة بلهاء للتعبير الإنجليزي (the tip of the iceberg)، يعني (غيضاً من فيض). ولكن الإعلام العربي مولع بل مهووس بالتفاصيل ومتعطش لرؤية الدماء والأشلاء. ثم يسأل أحدهم لماذا يعتبرون دمهم أنقى من دمنا؟ والجواب في بعض جوانبه يكمن في الإعلام ذاته.    

وعودة إلى اللغة والترجمة، ففي غياب الأساس المتين في اللغة وطرائق الترجمة والإنشاء السليم الواضح، وفي ظل مجموعة تائهة من القائمين على تدريب المترجمين الذين يعتقدون اعتقاداً راسخاً بأن الترجمة لا يمكن تدريسها وهم يتربعون على عروش مناصبهم الجامعية والأكاديمية ينظّرون لنا ويضللون طلابهم بسخيف الأمور والآراء المنسلخة عن الممارسات العملية والفعلية في الترجمة، ولعلهم لم يمارسوا الترجمة إلا نظرياً، يخرج إلى الساحة العامة جمهرة من المترجمين الذين يفتقرون إلى الوعي والمادة والأصول. فيعتمد هؤلاء المساكين على ما يقدمه الغرب لهم من برامج تنضيد مكتبي ونشر اعتماداً يكاد يكون كاملاً. فيقبلون بما تمليه عليهم تلك البرامج من حلول واقتراحات لغوية. فتجد كتابات كركرية هزلية تخالف قواعد اللغة وتنتهك عرض النحو والصرف، ومن اتجر بغير علم فقد ضل — كتابات تصدر عن دور نشر كانت إلى زمن ليس ببعيد مرموقة، ولكنها تردت مع تردي المستويات اللغوية. فحتى خريجو أقسام اللغة العربية والعلوم والدراسات الفقهية التي تعتمد اللغة أساساً في التفسير والتأويل والتنوير في أمصار وأقطار عربية كثيرة يرتكبون أخطاء فاحشة ويتبنون أشكالاً وأنماطاً فرنسية أو إنجليزية. ولقد كان في إحدى الجامعات البريطانية محاضر عربي في الترجمة ينصح طلابه أن يتجنبوا المثنى والممنوع من الصرف وكتابة الأعداد بالحروف وغيرها من المطبات والمزالق اللغوية بدل أن يعلمهم أصول اللغة والترجمة وقواعدها؛ وقد أنيطت به مسؤولية تنشئة المترجمين وتهيئتهم للمهنة في زمن الضعة والمسكنة وتدني المعايير والمستويات. وتراه اليوم كفئة كبيرة منبهرة الذات بالذات من المعلمين والأساتذة والباحثين الأجلاء والأفاضل والأكارم الذين ينشرون الفساد اللغوي والخلل المنطقي بين الناشئة والمتعطشين للعلم والمتلهفين للمعرفة. وقم للمعلم وفه التبجيلا...كاد المعلم أن يكون عميلا!!

 

ولا ينحصر هذا التأثير في المصطلحات والمفاهيم المختلفة والممارسات التي تتعلق بالتقنيات الجديدة القائمة بالدرجة الأولى على الحواسيب والأنظمة الآلية. بل يتعداها إلى أمور أساسية فينسفها من أساسها. فتجد مثلاً الخطوط المائلة في الطباعة والنشر المنضدي تخضع لمقاييس الحروف اللاتينية ومواصفاتها فتميل نحو اليمين خلافاً لقاعدة الإمالة في الخط العربي.  

ولعل من أبرز الأمثلة على هذا الظاهرة الدعوة إلى إصلاح الخط العربي التي شهدها العرب في الثلث الأول من القرن العشرين، ومطالبة بعض المستلبين والمأجورين آنذاك وبين الحين والآخر بتغييره إلى أحرف لاتينية على غرار ما حدث في تركيا. ولقد أصدرت جمعية تعميم وإصلاح الحروف بالآستانة سنة 1909، كتاب "الخط الجديد ومنافعه"، قالت في مقدمته: "نعتقد اعتقاداً جازما أن شكل الخط الحالي هو السبب العام الوحيد لتأخر المسلمين وأن أسباب تأخرهم كلها إليه ترجع ومنه تنشأ."[4] 

ولقد عاب بعض الناعين على الخط العربي خلوه من الأحرف الصائتة القصيرة وتعدد صور الحرف الواحد وتقارب صور الحرف في الرسم وعدم تمييز بعضها من بعض إلا بالإعجام أو الإهمال أو عدد النقط، وعدم تناسب الحروف في أحجامها.[5] 

ولم يدرك دعاة إصلاح الخط والدعوة إلى الحروف اللاتينية أن الشعوب الأوروبية اقتبست طريقة ابن مقلة في هندستها للخط اللاتيني. فقد كتب ذاك الخطاط الوزير رسالة في الخط تدعى "ميزان الخط". وهو المهندس الأول للخط المنسوب، أي الخط المكتوب وفقاً لفن الرسوم الهندسية والقوانين التي وضعت له. فقد أوجد طريقة للكتابة قررت للخط معايير يضبط بها على نسبة فاضلة إن زاد عنها قبح وإن قصر عنها سمج. ولقد نسب ابن مقلة جميع الحروف إلى الألف التي اتخذها مقياساً أساسياً تكون فيه الألف قطر دائرة.  

ولا يخفى على باحث جاد ومحلل نزيه أن الحملة لإصلاح الخط العربي كانت في بعض جوانبها حملة هدامة ومشبوهة، ولم يكتب لها النجاح في إحداث تغييرات جذرية. أما اليوم ونحن في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تشرئب تلك الحملة بعنقها من جديد بوجه يحمل ملامح التقنية الحديثة. ومن الأمثلة الجيدة على التغيير الذي فرضته التقنيات الحديثة تغيير الأرقام العربية، لا سيما في المشرق العربي ليتوافق مع التقنيات الغربية التوجه. فقد كانت هناك حملة في العالم العربي منذ عقد أو يزيد من الزمن تدعو إلى إبدال الأرقام العربية الهندية بالأرقام الغُبارية لأن تلك الأرقام عربية الأصل وقد تبنتها شعوب العالم الغربي— وانطلاقاً من الحرص على التراث العربي فلا بد من إعادة الأرقام الغبارية إلى مواطنها. وهذه الحملة، التي انتهت بمرسوم ملكي منذ سنوات في إحدى الدول العربية، تتجاهل أموراً كثيرة تتعلق بالخط العربي وطبيعته والأسس الجمالية والهندسية التي يقوم عليها هذا الفن التجريدي السامي. فكما هو واقع الحال بالنسبة إلى بعض الحروف والكلمات العربية، حيث روعيت الناحية الجمالية في كتابتها كقاعدة كتابة الهمزة النهائية المتطرفة التي تكتب في حالة النصب بدون ألف يتلوها وبألف إذا لم يسبقها ألف كما في: بناءً على... جزءاً...، فقد راعى العرب الأوائل والفنانون والكتبة منهم على وجه التحديد مسايرة الأرقام العربية لنوع الخط. ولما كان من المتعذر على الخطاط أو الكاتب أن يمزج بين سير القلم في رسم الحروف وبين رسم الأرقام العربية الغبارية الإزميلية (1234567890)، فقد لجأت العبقرية العربية، عندما كانت ما تزال هناك عبقرية، إلى استعارة الأرقام الهندية () وتطويرها وتكييفها مع سير الخطوط العربية، فانسجمت معها وآنستها وصار ميل القلم ومساره لا يختلفان في قاعدة رسم الحروف والأرقام وصارت جزءاً من التراث العربي واللغة.  

أما في المغرب العربي حيث انتهج الخط العربي نهجاً مختلفاً تميز بحروفه الأفقية القائمة المسطورة إلى حد كبير فلم تدع الحاجة إلى مثل هذا التكييف، فاحتفظ المغرب العربي بالأرقام الغُبارية إلى يومنا هذا. وعزز من ذلك الاحتفاظ تأثير الاستعمار الفرنسي الذي حاول النيل من اللغة العربية وطمس معالمها وفرض اللغة الفرنسية لغة بديلة.

والدعوة إلى إبدال الأرقام العربية بالأرقام الغبارية دعوة باطلة تحكم على الخط العربي بالجمود والوقوف، بل الرجوع القهقرى، ولا تأخذ بعين الاعتبار تطور الخط العربي إلي المستوى الفني والهندسي الرفيع الذي وصل إليه! ومن يرى في كتابة الأرقام الغبارية سهولة فذلك يعود إلى تأثر جمهرة كثيرة من العرب باللغات الأجنبية، كالفرنسية والإنجليزية، والتعود عليها في الكتابة الحرة. ولكن مزج هذه الأرقام بالخط العربي يبقى مخالفاً لسير القلم واتجاهه بأية صورة رسمته. ألا ترى معي أيها المتذوق للفن والجمال أن استعمال الأرقام الغبارية في النص العربي، لاسيما برسمها الأجنبي، لا يتناسب مع الخط نفسه؟

ولكن تردي نوعية الخط العربي المكتوب الحر أخرج في الآونة الأخيرة جيلاً من العرب يمزجون عدة خطوط في خط واحد يُخرج الخط عن قاعدته، فإذا استعملت الأرقام الغبارية فإنك لن تجد فرقاً في هذه الفوضى الخطية التي تخلو من الفن والجمال! ويتبادر السؤال هنا: هل الحاجة إلى استعمال الأرقام الغبارية حاجة عملية تخضع لمقاييس علمية، أم أنها حاجة نفسية، أم استكانة إلى مستلزمات تقنية مفروضة؟ فما لا يستطيع العرب تحقيقه للمستقبل، كما يبدو، يحاولون تحقيقه بالعودة إلى الماضي والوقوف على الأطلال، أو بتبريره بأنه عربي الأصل والأرومة. ولكن ما كل عود أحمد!

وتجد اليوم تخبطاً وعدم اتساق وانتظام في استعمال تلك الأرقام في البلد الواحد وفي المجال المعرفي الواحد، لا سيما في الصحافة المطبوعة، وبين صحيفة وأخرى. ويعود السبب في ذلك إلى المشكلات التقنية التي تواجهها تلك المؤسسات في التعامل مع الأرقام العربية الهندية بسبب قصور تلك التقنيات وعجزها عن مجاراة الخصائص المميزة للحروف العربية وتكيفها مع شروطها ومتطلباتها. فما يحدث اليوم هو تكيف قسري شاذ للغة وأدواتها مع التقنيات الغربية التي لا تعير تلك اللغة أي اهتمام جاد. ولقد انصرف المختصون في منظمات المقاييس والمعايير العربية وغير العربية في الثمانينات وما بعدها إلى وضع دراسات ومقترحات لتكييف التقنيات مع المستلزمات الطباعية العربية في أجهزة الحواسيب، فنجحوا إلى درجة كبيرة في إقناع المنتجين بضرورة استيعاب بعض الخصائص العربية. ولكنّ تخلف البلدان العربية عن الركب التقني، وتباطؤ العرب في تبني أنظمة الحواسيب، وتنافسهم فيما بينهم وغياب التنسيق الجاد والفاعل بينهم، وتردد المنتجين والمصنعين في تزويد البلدان العربية بتقنيات تمكنها من التفوق النوعي السريع، فوتت الفرصة على العرب في التأثير من البداية في شكل ومضمون التقنيات الخاصة بالأشكال والحروف والمواصفات المعتمدة في تلك الأنظمة والأجهزة، فلم "يقفزوا إليها" كما يقفز مراسلو الفضائيات على أنغام الترجمة الحرفية من اللغة الإنجليزية، في نقل أحمق للعبارة الاصطلاحية (to jump at the chance).  فالعرب اليوم يستيقظون على الأغاني الضاربة (وضرّاب السخن، كما يقول غوار)، ويقفزون إلى النتائج إن لم يستطيعوا القفز إلى الفرص، ثم يقتلون بدم بارد ويغسلون الأموال، ويرمون الطفل مع طشت الغسيل، وبين هذا وذاك خمس كلمات أجنبية مشكلة متنوعة، على البيعة كما يقولون بالعامية اللبنانية، وكرم أخلاق، فهنيئاً لكم أيها العرب.

ولقد أجْرَيتُ منذ عدة سنوات دراسة علمية أكاديمية، كانت الأولى من نوعها في ذاك المجال، عن أثر اكتساب اللغة الإنجليزية في اللغة الأم عند المهاجرين العرب. وخلصت الدراسة إلى أن التعرض المستمر للغة البلد المضيف قد يؤدي إلى نشوء لغة زائفة تختلف في أشكالها ومعانيها عن اللغة الأم. ولعلي كنت شديد المبالغة في هذا الاستنتاج، فما نقف عليه من ترهات وسخافات لغوية في منابت اللغة العربية، بعد عقود تجاوزت الثلاثة من الاغتراب والابتعاد عن الوطن، يحمل المرء على إعادة النظر في استنتاجاته. فعلى ما يبدو فأن اللغة العربية ما تزال بألف خير في المغتربات الأجنبية، والخوف كل الخوف عليها في عقر دارها.    

 

إن تقنيات المعلومات الغربية، لاسيما تلك التي يتم إنتاج معظمها باللغة الإنجليزية، تقنيات لاتينية الأساس وغربية القاعدة والاتجاه. ورغم الحديث الباهر عن العولمة و"المَحْللة" (localization) فما تزال الغلبة والسيطرة للمواصفات التقنية الغربية. ورغم الطفرة الهائلة والقوة الاقتصادية الناجمة عن الثروات النفطية في الثلث الأخير من القرن الماضي فلم تنجح الدول العربية في التأثير في البلدان المصنعة، ولم تنجح في اعتماد مواصفة واحدة للحروف العربية في الحواسيب وشبكة الإنترنت على سبيل المثال. فتجد أزمة حاسوبية بين آزمو وويندوز وغيرها من مصفوفات الحروف.

فبعض المراسلات والمواقع وغيرها لا يقرأ ولا يمكن فك رموزه بسبب التضارب في مصفوفات الحروف المستخدمة في البرامج المختلفة. وهذا ليس عجزاً أو تقصيراً أو قصوراً في اللغة نفسها وطبيعة خطوطها وتراكيبها بقدر ما هو عجز في البلدان العربية التي تفتقر إلى النفوذ في ذاك المجال، فآثرت تبديل الحروف، وتغريب اللغة.   

ولقد حمل بعض المستلبين باللغات الأجنبية على اللغة العربية عجزها عن مجاراة التقنية، وعاب عليها "افتقارها" على حد قوله لحروف العلة، فكأن عدم اعتماد الخط العربي لحروف العلة القصيرة عيب فيها. فعجزوا عن فهم مبدأ الاقتصاد والإيجاز الذي تقوم عليه جميع لغات الأرض بأشكال وطرائق مختلفة ومتنوعة، وتجاهلوا أثر الاستعمار التقني في لغات العالم عبر العولمة والتقنية ذات المنظور الأحادي اللغة والحضارة (technologically imperialist languages).

عندما كان العرب في أوج نشاطهم الحضاري والتقني، اقتبس العالم أجمع عنهم أساليب وطرائق وتقنيات ومنهجيات وعلوم كثيرة، أبسطها الأرقام العربية التي كيفوها باقتباس الأشكال الهندية للأرقام، فأخذ العرب المشرقيون عن الهنود وأخذ الغرب الأرقام العربية الغبارية التي ما تزال تستعمل إلى يومنا هذا. فلو عكسنا الوضع برهة لما وجدنا العجز في اللغة بل إن التقنيات تطورت حول المواصفات والخصائص اللغوية المتوافرة في البيئة التي نشأت وتطورت فيها.         

تاعتاميدو الوغاتو مابدأ الإقتيصادي وا الإيجازي

Tatamidu al-lughatu mabda’a al-iqtisaad wa al-ijazi

ولا تخلو الحروف اللاتينية من مشكلات أساسية منها التباس حرف I  الكبير وحرف l الصغير، كما في Illusion والتباس حرفm  وحرفي rn مجتمعين، ناهيك عن المشكلات الطباعية الأخرى التي ما نزال نراها رغم تطور النشر المنضدي والتحكم في المسافات بين الحروف وما يعرف في علم الخط وهندسته بالقرمطة (kerning). وما برح مهندسو الخطوط الأجنبية يسعون لتحسين أساليب الطباعة بتطوير تقنيات جديدة تتكيف مع أشكال الحروف وطبيعتها الهندسية. ورغم تنوع الوجوه الطباعية للحروف الأجنبية فإنها لم تتغير منذ إدخال حرف U  بعدما كان حرف V يستعمل بدلاً منه. TO TRVST IS COVRAGE.  

ولا شك أن الإنسان مفطور على السرعة في قضاء حاجاته. وهذا ما يثبته لنا التطور السريع في مجالات كثيرة من التواصل والاتصالات والتقنيات. وتكل النفس من القوالب التي تحد من سرعته. لذا، استنبط العرب الخطوط اللينة في الكتابة، واستنبط الغرب طريقته في الاختزال، ومازلنا نعلم المترجمين والتراجمة طريقة تدوين الملاحظات في مساقات خاصة حتى تسهل عليهم حفظ ما يتلقونه من كلام واسترجاعه بأمانة ودقة.

ومع انتشار الهواتف النقالة وبرامج الدردشة والتواصل النصي الحي والمباشر، نشأت طرائق جديدة في الاختزال في اللغة الإنجليزية فصارت على سبيل المثال جملة how are you? تختصر بــ: hru، و are you ok بـ ruok، وtomorrow  بـ 2moro، وغيرها كثير مما لا يتسع له المجال هنا. وسرعان ما صارت نظاماً متكاملاً واصطلاحاً متعارفاً عليه بين مستخدمي تلك الوسائل. ولم يتخلف العرب عن هذا الركب فطوروا نظامهم ورموزهم الخاصة بهم واستعاضوا عن المورفيمات أو الصويتات التي لا تحتوي عليها الحروف الإنجليزية الأساسية برموز إضافية كاستعمال الأرقام مع الحروف، فاعتمدوا الرقم 7 لتمثيل الحاء، نحو(7abibi). ومما لا شك فيه أن هذه الظاهرة الحديثة في التواصل النصي عبر وسائل الاتصالات الجديدة تثبت النزعة الفطرية عند البشر للاختصار والاختزال في الخط.             

 لقد تخلت تركيا عن الحروف العربية حباً بالاندماج بالغرب وإرضاءً لحاجة القبول عند الشعوب المستنمية، فتخلت عن أعظم فن كان لديها، وهو الخط العربي. وقطعت صلتها بتاريخ طويل صاغت هي شكله على مدى أربعة قرون. ولقد كان بإمكان إسرائيل كذلك أن تبدل حروفها العبرية إلى الحروف العربية فتتغلغل في الوطن العربي فتسيطر من خلال الاندماج على اللغة والحضارة في وقت أقصر. فلطالما كان هناك تعاون خفي بين مراكز الترجمة والتعريب في بعض الأقطار العربية ومراكز البحوث اليهودية لإحياء اللغة العبرية وتقويتها لانتمائها إلى عائلة اللغات السامية، على حد قول أحد كبار المستشارين العرب. ولكنها ارتأت أن تحتفظ بحروفها والحفاظ على شخصيتها القومية، وفرضت على المنتجين في الغرب تكييف منتجاتهم وتقنياتهم لتستوعب اللغة العبرية وحروفها. أما العرب فإلى أين هم ذاهبون؟ لا الغرب يقبلهم مهما يبالغوا في الانبطاح والاستلاب والاستمتاع بالجزر. ولا الشرق يحضنهم مهما استرسلوا في الاستشراق والانزلاق. فهم اليوم بقصورهم وعجزهم وقصر نظرهم وغوغائيتهم واستلابهم الفكري والحضاري، وحالهم كمن لم ير شيئاً فلما رأى سقط مغشياً عليه،  لا يرون سوى اللحاق بأذيال الغرب الذي لا يرمي لهم إلا فتات التقنيات الحديثة وساقطها. فإن تكرم الغرب عليهم قدم لهم منتجات محدودة الإمكانيات والقدرات، انحصرت فيما يضمن بقاءهم سوقاً مستهلكة وشعوباً منقسمة على ذاتها تفاخر بآخر الصرعات وتحاول معالجة مشكلات اجتماعية منحصرة ومحدودة وتافهة تنجم عن استعمالات وممارسات لا تكفل تقدمها ولا نهوضها إلى مصاف الأمم الفاعلة.  

انتهى

 


[1]    بالرغم من  أن لفظ (الفائق) مشتق من المصدر (فوق) فهو اصطلاحاً الخِيارُ مِن كُلِّ شيءٍ. 

[2]     كما وردت في النص الأصلي بدلاً من (عدداً كبيراً). 

[3]    يقال هذا تَوْأَمُ للذكر وهذه تَوْأَمَةُ للأنثى، فإذا اجتمعا فهما توْأَمانِ وتَوْأَمٌ كما يقال هما زوجانِ وزوجٌ. ولكن التثنية هي الأصل. وإذا كان في الآدمييّن لا يمتنع أن يُجمَع مذكَّرهُ بالواو والنون كما يُجمَع مُؤَنثه.  

[4]     نشأة وتطور الكتابة الخطية العربية ودورها الثقافي والاجتماعي، لفوزي سالم عفيفي، 1980

[5]   الخط العربي : نشأته ، تطوره، مشكلاته ، دعوات إصلاحه، للدكتور إميل يعقوب. 1986.

 


Title		Impact of Technology on Language and Culture of Developing Countries
Author		Darwish, Ali
Publication Year	2004
Publication Mode	Internet – Electronic Publishing
Document Identifier	AD180904_1
Document Type	Article
Target Audience	Translation and Cross-cultural Communication Teachers, Practitioners 
		and Researchers; Media Analysts and Journalists 
Descriptors	Translation,  Translation, Cultural Appropriation, Intellectual Property, 
		Internet, Information Authentication 
Document Created on	01/09/04 

Copyright © 2004 Ali Darwish.
All rights reserved. No part of the contents of this document may be copied, reproduced, or stored in any retrieval system, without the express permission of the author.

Please direct all comments on this page to Ali Darwish.

Back to Home Page