Copyright © 2005- 2006 ِAli Darwish. All Rights Reserved.

الترجمان الكبير والترجمان الصغير

رســالـة في التـرجـمـة
تأليف

علي درويش

22 ديسمبر / كانون الأول 2005

 الجزء الأول

الدِّيبَاجَةُ

أمَّا بعدُ ، فإنَّ للتَفَاهُمِ بَينَ الأُمَمِ وَالشُّعُوبِ حَاجَةً، وَلِكُلِّ حَاجَةٍ غَايةً، وَلِكُلِّ غَايَةٍ سَبيلاً. وَسَبيْلُ التَّفَاهُمِ بَيْنَ الأُمَمِ وَالشُّعُوبْ التَّوَاصُلُ وَتَبْلِيغُ مَا في النُّفُوسِ وَمَا في القُلُوبْ. وَلمّا اختَلَفَتِ اللُّغَاتُ وَالأَلْسِنَةْ وَتَعَدَّدَتِ اللَّهَجَاتُ وَالأَمْكِنَةْ، فَقَدْ صَارَ ذلِكَ الأمْرُ عَسِيرا، وَبلُوغُهُ هَدَفًا كَبيرا. فإمّا تَعَلُّمُ الأَنَامِ لُغَةَ الكَلامِ وَالأَلْسُنِ، وَهَذا لَيْسَ باِلأَمْرِ المُمكِن وَاليَسِير عَلَى كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبير، أَوْ أَنْ يَكُونَ بَينَ النَّاسِ تُرْجُمَانْ يَنْقُلُ الكَلامَ وَالمَعَاني بفَصِيحِ العِبَارَةِ وَالبَيَانْ. وَلمَّا عُرِفَ في النَّاسِ حُبُّ الاختصَارِ والعَجَلَةِ وَعَنْ لُغَاتِ الأَرْضِ مِنْ تَنَوُّعٍ واختلافٍ وَتَعْقِيد، فإنَّ العُقُولَ تَعْجَزُ عَنِ الإحَاطَةِ بهَا كُلِّهَا وَتَنأى عَنْ حِفْظِ أَسْرَارِهَا وَالخَوْضِ في غِمَارِهَا. وَلمّا عُرِفَ في اللُّغَاتِ تَغْلِيـبُها واستحْواذُ إحدَاهُنَّ عَلى أَخَوَاتِهَا، وَتَغَلْغُلُهَا في النَّفُوسِ خُلْسَةً وَتَأَصُّلُهَا في الوِجْدَانِ خِفْيَةً، فَإِذا أَكثَرَ المَرْءُ مِنْ تَعلُّمِ اللُّغَاتِ أَصَابَ كَلامَهُ اللَّحْنُ وَالخَطَأُ، وَشَابَتْهُ العُيُوبُ وَالشَّوَائِبُ، وَاعْتَرَاهُ الضَّعْفُ وَالصَّدَأُ، وَتَقَهْقَرَتْ أَلْفَاظُهُ، وَتَهَرَّأَتْ عِبَارَاتُهُ، وَتَقَلَّصَتْ مُفْرَدَاتُهُ، وَانْحَسَرَتْ كَلِمَاتُهُ، فَانْصَرَفَ عَنِ الفَصَاحَةِ وَالبَلاغَةِ إلى المُسْتَعَارِ مِنَ الأَعْجَمِيِّ مِنَ الكَلامِ وَالبَلاهَةِ، وَنَسِيَ طَرَائِقَ التَّعْبيرِ في لُغَةِ البَيَانِ وَالبَدِيعِ، وَقَالَ إنَّ تِلكَ هِيَ لُغَةُ الحَدَاثَةِ وَالصَّحَافَةِ في هَذَا الزَّمَنِ السَّرِيعِ. فَإذَا سَمِعَ الأَعَاجِمَ يَقُولُونَ (the last night of the month) تَرْجَمَ ذلِكَ بمَخْزُونِهِ المَحْدُودِ وانْسِلاخِهِ عَنْ تُرَاثِهِ اللُّغَويِّ المَفْقُودِ، بآخِرِ لَيْلَةٍ في الشَّهْرِ. وَلَمْ يَدْرِ أَنَّ أَجْدَادَهُ الفُصَحَاء عَبَّرُوا عَنْ ذلِكَ باللَّيْلَةِ الشَّيـْبَاء. وَإِذَا قَـرَأَ لَهُم العِبَارةَ المُتَوَاتِرَة  (the next few weeks) تَرْجَمَهَا دُونَ مُغَايَرَة تَرْجَمَةً عَفْوِيَّةً إلى اللُّغَةِ العَرَبيَّةِ بالأَسَابيعِ القَلِيْلَةِ القَادِمَةِ. وَإذا سَمِعَ لَفْظَ (abortion) تَرْجَمَهُ دُوْنَ وَعْيٍ بالإِجْهَاضِ، فَسَاوَى مِنْ حَيْثُ لَمْ يَدْرِ في زَمَنِ الحُرِّيةِ وَالإِخَاءِ وَالمُسَاوَاةِ بَيْنَ المَرْأَةِ وَالنَّاقَةِ، لأَنَّ أَوَّلَ مَنْ نَقَلَهَا إِلى العَرَبيَّةِ كَانَ أَشَدَّ حَمَاقَة، فَفي الأَصْلِ أَجْهَضَتِ النَّاقَةُ وَأَسْقَطَتِ المَرْأَةُ، وَلَكِنَّ النَّقَلَةَ الطَّهْطَاوِيينَ أَطْلَقُوهَا بكُلِّ جُرْأَةٍ عَلَى الفَهِيْمةِ وَالبَهِيْمَةِ، رَغْمَ أَنَّ العَامَّةَ تَقُولُ سَقَّطَتِ المَرْأَةُ، أَيْ أَسْقَطَتْ. وَتَرجموا كَذَلِكَ المصطلح الطبي (anisodont) بمتفاوت الأسنان، وَلمْ يَدْرُوا أَنَّ العَربِيَّةَ عَبَّرَتْ عَنْهُ بالشَّغَا، وَقد افتُتِنَ العَربُ بمرْصُوفَةِ الأسنانِ وَانصرفوا عَنِ الشَّغْيَاءِ وَالشَّغْوَاءِ.  فبَيْنَمَا يَدَّعِي المحُدَثَونَ وَالأَدعِيَاء أَنَّ هَذَا الزَّمَنَ الرَّدِيءَ هُوَ زَمَنُ الوَجَبَاتِ المَزْفُوفَةْ وَيخْتَصِرُونَ وِجْدَانَهُم بتـَتَبُّعِ أَقْرَاءِ الكَلامِ الأَجْنَبيِّ وَيَجْتَرُّونَ حُرُوفَهْ، بحُجَّةِ الإِعْلامِ وَالصَّحَافَةْ، كانَ أَجْدَادُهُمُ الأَفَاضِلُ أَشَدَّ مَهَارَةً في الإيجَازِ دُونَ الحَاجَةِ إِلَى الاِسْتِعَارَةِ وَالاِسْتِجَارَةِ، "فَمَنْ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ كَلامٌ يَسْتَحْسِنُهُ أَوْ يُسْتَحْسَنُ مِنْهُ فَلا يَعْجَبَنَّ إعْجَابَ المُخْتَرِعِ المُبْتَدِعِ، فَإنَّمَا اجْتَنَاهُ كَمَا وَصَفْنَا"[1]، اجْتِنَاءَ الذَّلِيْلِ الفَقِيرِ المُنْخَدِعِ.

للحصول على النسخة الكاملة اضغط هنا.

 


[1]  ابن المقفع، الأدب الصغير والأدب الكبير.


Copyright © 2005- 2006 Ali Darwish.
All rights reserved. No part of the contents of this document may be copied, reproduced, or stored in any retrieval system, without the express permission of the author.

Please direct all comments on this page to Ali Darwish.

Back to Home Page