Copyright © 2004 ِAli Darwish. All Rights Reserved.

Published concurrently in al-Manac (abridged)

How Arabic Translators Frustrated America's War on Global Terrorism!

Ali Darwish
22 May 2004

Abstract
Full Arabic text below

English Version

Click here for a PDF version (in Arabic)

This paper examines the literal translation approach taken by Arabic translators employed by media and government agencies to cover the war on terrorism and how this approach has significantly contributed to the distortion of the US Administration's media campaign message against global terrorism.


تعرض هذه المقالة لمشكلة الحرفية المطلقة التي ينتهجها معظم المترجمين والإعلاميين العرب، لاسيما أولئك الذين يعملون في المؤسسات والدوائر الحكومية وأجهزة الإعلام، في نقلهم للمعارف والعلوم وفي التواصل والتعامل مع الأمم. وتستند في تحليلها لهذه الظاهرة الأليمة إلى نماذج حقيقية من مصادر متنوعة. وتسلط الضوء بشكل خاص على ظاهرة الاستلاب اللغوي والحضاري عند جمهرة كبيرة من المثقفين العرب وتبرز مشكلة تردي المستويات اللغوية وانعدام مهارات الترجمة الواعية، من خلال تحليلها لنصوص ومناشير أصدرتها الإدارة الأميركية إبان حملتها على الإرهاب الدولي.       


كيف أحبط المترجمون العرب حرب أميركا على الإرهاب الدولي

بقلم علي درويش

22 أيار/ مايو 2004

يقول المثل الإنجليزي "قليل من العلم أمر خطر". ولعل هذا المثل ينطبق على معظم المترجمين العرب بالدرجة الأولى وجمهرة كبيرة من المثقفين والإعلاميين والسياسيين والمفكرين العرب. فمن المؤسف أن معرفتهم باللغات الأجنبية بشكل عام ضحلة لا تتجاوز في أغلبها، وفي ما يسترعي التعامل الذكي معها، ظاهرَ الكلام ومعجميةَ المعاني. ولطالما كان ذلك واضحاً في مجالات كثيرة تتعلق بالترجمة والنقل في شتى الميادين، سواء أكان ذلك في منابت اللغة العربية التي ينخر السوس فيها أو في منابع اللغات الأجنبية التي تعكرها أحداث التاريخ.  

ومن أسوأ الأمور التي ارتكبها "المترجمون العرب"، بما تحمله هذه العبارة الفضفاضة من معانٍ وتفسيرات وتأويلات كثيرة، في الآونة الأخيرة، ترجمتهم للفظ (crusade) والذي استخدمه الرئيس الأميركي جورج بوش الثاني في حملته على ما سماه بالإرهاب الدولي عقب — بل كما يحلو لإعلاميينا وغيرهم أن يقولوا هذه الأيام— على خلفية أحداث الحادي عشر من سبتمبر / أيلول 2001، ترجمةًً للعبارة الإنجليزية (to the backdrop of …) أو (against the background of) أو (on the back of). إذ سارع هؤلاء الحمقى ومن حولهم إلى ترجمتها بأنها "حرب صليبية"، فقامت دنيا العرب ولمّا تقعد بعد. مما اضطر الرئيس الأميركي إلى التراجع عن تلك الكلمة وتبرير استخدامه لها بأنها كانت زلة لسان. ورب جاهل متحجر، أو مجادل متصلب، أو متسرع متهور، يهب ليحاجك ويجادلك بصحتها، ويناطحك القول بأنه كلام مردود عليه. ولكن مهلاً قليلاً!

نحن أولاً لسنا هنا بالطبع في معرض مناصرة هذا الطرف ومناهضة ذاك الطرف أو وتأييد هذا الفريق ومعارضة ذاك الفريق. ولكننا نقف عند أمر لا يمكن تجاوزه...

 نحن أولاً لسنا هنا بالطبع في معرض مناصرة هذا الطرف ومناهضة ذاك الطرف أو وتأييد هذا الفريق ومعارضة ذاك الفريق. ولكننا نقف عند أمر لا يمكن تجاوزه والتغاضي عنه في مجال التواصل بين الشعوب والأمم. فهو يكشف عيوباً ضاربة في عمق المؤسسات التربوية ومناهج تعليم اللغات الأجنبية وطرائق تحليلها في العالم العربي. فمن العجب العجاب أن القائمين على تدريب المترجمين لا يأبهون لتلك الظاهرة ولا يعيرونها أي اهتمام. بل يكرسون طرائق وأساليب تفتقر إلى الوعي والمنهجية والحداثة في التعامل مع الترجمة واللغات، سواء أكانت أصلية محلية أم أجنبية مستوردة. ذلك أن إعداد جيل واع من المترجمين والتراجمة مسؤولية كبيرة تتجاوز تقاضي راتب معين وتبوء منصب في جامعات ومؤسسات تربوية مُضلَلَةٍ تؤخذ بالألقاب وتعاني معاناة مزمنة عقداً كثيرة لا حصر لها ولا عدّ، وأخطرها عقدة الخواجة المزمنة والمتأصلة في نفوسهم وعقولهم، والمتوارثة جيلاً عن جيل منذ الاستعمار الأول، والتي ما تزال تسيطر عليهم وعلى ألبابهم من المحيط إلى الخليج، يحملونها معهم أينما ذهبوا وأينما نزلوا، وأينما حطوا الرحال ونصبوا خيامهم المتحركة، في الشرق أم في الغرب، على الرغم من أن عقيدتهم ترفض الركوع والسجود لغير الله. أفليس في ذلك تضارب وتناقض نفسي واضطراب ذهني، أو ما يدعى في علم النفس بالنشاز الفكري (cognitive dissonance)؟ فتجدهم يوظفون الخبراء الأجانب في مجالات كثيرة، عملاً بنصيحة الشاعر الروماني القديم فيرجيل (اتبع خبيراً)، لا سيما في الإعلام وفي مدارسه الحديثة، فيعلمونهم كيفية النطق والتقديم وصياغة الخبر بألسن أعجمية ومناظير أحادية اللغة والحضارة، وكثيراً ما يخطئونهم النصيحة فنسمع مثلاً شعاراً لمؤسسة تربوية تخاطب الناطقين بالإنجليزية (the future is rooted here)، يعني المستقبل متجذر أو متأصل هنا. ولكن من يعرف الجوانب العامية للغة الإنجليزية يدرك فوراً المعنى الضمني لكلمة (rooted) الذي يتبادر إلى أذهان معظم الناطقين بتلك اللغة. وسأترك لك المجال أيها القارئ الكريم كي تتحرى معانيه المختلفة وتدرك القصد والغاية. بيد أن كل شيء يخرج من أفواه أولئك الخبراء مقدس ولا غبار عليه. ثم يتساءل أحدهم في أحد برامج الجدل العقيم كصاحب الجَزَرة، لماذا يحتقروننا؟ ولم يدرك الحكمة القديمة أنك "إذا رفعت أحداً فوق قدره فتوقع منه أن يحط منك بقدر ما رفعت منه."

إن كلمة (crusade) في الإنجليزية لا تعني فقط حرباً صليبية، فهذا هو المعنى التاريخي للكلمة. ولكنها في معرض الكلام العادي الحديث تعني أي حملة مركزة مصممة وهادفة ، ولا علاقة للمعنى التاريخي بها. كما في قولهم:

The Breast Cancer Crusade
The Crusade against Hepatitis C
The Crusade against Hunger
The Crusade against Poverty

فتلك بالطبع ليست حروباً صليبية ضد سرطان الثدي والتهاب الكبد والجوع والفقر! بيد أن المترجمين الفطاحل والإعلاميين الصناديد، الذين يركبون أنوفهم، ويأنفون من النقد، على عادتهم الهوجاء في اجتزاء المعرفة والهرب بها واعتمادهم على المعاني المعجمية خارج سياقها ووظيفتها العملية، لم يروا هذا الجانب العملي للكلمة. أما أولئك الذين يؤمنون بنظرية المؤامرة وبأن العالم كله يقف ضدهم ويحيك المؤامرات لتحطيم آمالهم ويكيد المكائد للنيل منهم ، وما يحيق المكر إلا بأهله، فلم يروا غير المعنى التاريخي للكلمة.  

مما لا شك فيه أن اللغة تستقي دلالاتها من البيئة التي تُستخدم فيها، فتربط الحاضر بالماضي وتنظر إلى المستقبل من خلال التفاعل مع المعطيات المحيطة. ولقد تطورت المجتمعات الغربية بحيث نفضت عنها غبار الماضي وعقليته المحدودة. ولم تعد أسيرة أنماط فكرية ومناظير ضيقة تحد من رؤيتها للحاضر وتطلعاتها للمستقبل. فتحررت لغاتها وتغيرت مضامينها إلى درجة كبيرة، فانفصلت عن معانيها القديمة واكتسبت معاني جديدة لا تعاني عقداً نفسية مزمنة تحد من طموحاتها وآمالها. أمّا المجتمعات العربية فما تزال ترزح في عهود الظلام وتغرق في غياهب الجهل والأمية التي فرضها عليها الباب العالي. ولقد استُبعِدت اللغة عن بيئتها الطبيعية ثلاث مرات: الأولى إبان الحكم العثماني، والثانية خلال الاستعمار الأوربي، والثالثة في القرن العشرين وما بعده من خلال الغزو الثقافي الحديث المستمر، فجمدت وتجمدت بإشاراتها ودلالاتها في وَرَبٍ زمني مزمن. بل إن الأحداث المتتالية منذ النهضة العربية الحديثة الوجيزة (1798 – 1939) وموجة "التسونامي" العظمى من التراجع والانحسار الاجتماعي والفكري والنفسي ما انفكت ترسخ وتعزز الأبعاد التاريخية لأوجه كثيرة من اللغة والحضارة، وما برح زيد يضرب عَمراً ويبرّح به تبريحاً، وقيمة المرء فيما يحسن عمله.

ولو قارنا كلمة (crusade) بكلمة (الجهاد) لما وجدنا فرقاً كبيراً من حيث الاستعمال العادي الحديث المجرد من الصفة الدينية، رغم أن الرابط المعنوي (semantic nexus) بين المعنى الديني والمعنى الوضعي للفظ (الجهاد) أقوى، وما فتئت تكرسه الأحداث الأخيرة. ولكن ألم يقل الشاعر: قف دون رأيك في الحياة مجاهداً – إن الحياة عقيدة وجهاد؟  

مما لا شك فيه أن اللوم يقع بالدرجة الأولى على مستشاري الرئيس الأميركي ومحلليه، لاسيما أولئك الأخصائيون الذين يدعونهم بـ (psyopers)، أو محللي العمليات النفسية...

مما لا شك فيه أن اللوم يقع بالدرجة الأولى على مستشاري الرئيس الأميركي ومحلليه، لاسيما أولئك الأخصائيون الذين يدعونهم بـ (psyopers)، أو محللي العمليات النفسية، أو من يعمل عملهم في دهاليز الإدارة الأميركية، الذين ربما اختاروا هذه الكلمة له. فقد أخطأوه النصيحة، كما فعلوا في شعار حملتهم الاستفزازي على أفغانستان، العدالة السرمدية (infinite justice)، مما حملهم على الاستدراك لاحقاً وتغييره إلى الحرية المستديمة (enduring freedom)، فرضي العالم الثالث بها وحُلت المشكلة واستكان وجهاؤه من علماء وخبراء لا يتوانون عن ربط كل شيء يصدر من أي مكان في الغرب بمؤامرة أو مكيدة أو سترجة تهدف إلى تقويض بنيان المجتمعات العربية وهدم حضارتها. ولو أخضعت هؤلاء لاختبار نفسي لتداعي الأفكار (بل الفِكَر) وربط الكلمات بالكلمات لوجدتهم يربطون معظمها إما بالجنس أو بالدين أو ربما الاثنين معاً. فكما فقد الغرب براءته الجنسية علانية منذ عهود وصارت البنت تعلم أمها البضاعَ، فقد العرب براءتهم السياسية وصفاءهم الفكري سراً وفي الخفاء وصار الابن يعلم أباه الصراعَ والضراعة. ومن السذاجة بالطبع أن نستبعد التخطيط الاستراتيجي للإدارات الأميركية المتعاقبة والمؤسسة الأميركية الخاص بالعالم كله بوصفها القوة العظمى الوحيدة أو بالنسبة إلى الوطن العربي بشكل خاص. ولكن ليس كل ما يصدر عن هؤلاء يخضع للمنطق أو التحليل العلمي أو المنهجية ، وليس كل ما يتفوهون به مبيتاً أو متعمداً أو مقصودا. واللجوء إلى نظرية المؤامرة ما هو سوى ضعف في الشخصية العربية التي تعيق نموها ونضجَها العقدُ النفسيةُ المتأصلةُ في نفوس العرب والممتزجة بنزعة التضخيم والمبالغة في كل شيء، والتي تتخذ أشكالاً ومظاهر مختلفة من الركوع والسجود لغير الله من جهة، والانبهار والاستلاب والرجوع القهقرى من جهة، والخوف الرافض والارتياب والتوجس من جهة أخرى. فالجميع يتآمر على الجميع، أو هكذا هو الاعتقاد السائد، في مجتمعات تقوم على المخابرات والتنصت والوشاية والفساد، فبرعوا وتفننوا فيها حتى صاروا مضرب مثل في العالم، تُدَرّسُ أساليبهم ومنهجياتهم، وتُصدّر فنونهم، وتُحوّل مراكزهم إلى محطاتِ سَوْمٍ في منتصف الطريق إلى الجحيم.  

وكان من الأجدر بمستشاري الرئيس الأميركي وهم يدّعون معرفة النفسية العربية ويتبجحون بفهمهم لشخصية العرب وعقولهم الغريبـة"غير المنظمة غربياً"، والتي لا ترى الوجود كما يراه الغرب، على حد قول أحد رجالاتهم السياسيين والدبلوماسيين مؤخراً في برنامج "هاردطوق" (Hardtalk) الذي يقدمه تيم سباستيان في التلفاز البريطاني، وكأنهم جنس متخلف من مخلوقات جاءت من عالم آخر، أن يدركوا أمرين مهمين: الأول هو طرائق تعليم اللغات الأجنبية في البلدان العربية وأساليب الترجمة العربية فيها، وقد استثمروا أموالاًً وجهوداً في مراقبة ما يصدر من منشورات وكتب في العالم العربي خلال الحرب الباردة وما بعدها. وقد جاءوا يطالبون بتغيير المناهج التعليمية في البلدان العربية، في معالجة سطحية للأعراض أو الأمراض الثانوية دون الالتفات إلى أصل الداء والعلة، على طريقة "اقتل أولاً ثم اسأل ثانياً". والثاني هو الأصل التاريخي لكلمة (crusade) والترسبات التاريخية والحضارية والسياسية لتلك الكلمة على مدى عقود وأزمان، وحالة الشك والخوف والقط والفأر التي تشوب وتنتاب العلاقات العربية الغربية عامة والأميركية خاصة. ولطالما صرخت أميركا "الذئبَ ، الذئبَ!" فلم يعد يصدقها العرب، إلا قليلُ منهم.  

فكان باستطاعتهم في تلك الحالة تجنب استعمال كلمة (crusade) بشكل غير واعٍ وارتكاسي،  والوقوع في مأزق الترجمة الحرفية والمجزوءة التي تطبع نهج معظم العاملين في مجال الترجمة العربية بخاصة، لو أنهم أخضعوا الكلمة للتحليل المنهجي. فلا يخفى على باحث جادٍ عاقل أن الترجمة الحرفية المطلقة تطغى على المترجمين العرب، وأن الترجمة تشكل مصدراً رئيساً من مصادر المعرفة والمعلومات، ومن الواضح أنها أضحت الوسيلة الأساسية في تفاعل العرب مع بيئتهم الفورية وشؤونهم الحياتية الأنية وقضاياهم المصيرية، إما من خلال نصوص مترجمة مباشرة أو نصوص اعتمدت في جلها على مصادر أجنبية فاقتبست، بل اقتنصت في معظمها، من تلك المصادر جملة وتفصيلاً (stock, lock and barrel)، بحسناتها وسيئاتها، وبغثها وسمينها، فلم تتجاوز حرفية نقل قشور المعرفة والمصطلحات، بل سفسط الكلام وساقطه في لغات المصدر. ويتبارون ويتنافسون ويتبرجون كما تتبرج الغواني في اقتباس مبتذل الكلام الأجنبي  الذي غالباً ما يعيب أهل اللغة أنفسهم استعماله في لغتهم. فيشيع في العربية المعاصرة تعابير مغرقة في الحرفية المبتذلة إلى درجة أنها تتسبب في تشويه المعاني المقصودة، وعيبك مستور ما أسعدك جَدُك. ومنها على سبيل المثال تعبير (الحرس القديم) ترجمة حرفية للتعبير الإنجليزي (old guard). تأمل الأمثلة الآتية: 

التغيير الوزاري بمصر صراع بين الحرس القديم والإصلاحيين...

 

وزير الخارجية الأمريكي يعتبر الحرس القديم في سورية معرقل الإصلاح...

 

تجفيف منابع الحرس القديم ...

ولا يعملون الفكر في المعنى المقصود من اللفظ الإنجليزي. بل ينقلونه نقلاًً حرفياً شكلياً فيما يعرف بترجمة التّرّسُم (calque translation) دون أن يسألوا أنفسهم عن معنى (الحرس القديم) ناهيك عن المعنى الأصلي في الإنجليزية. فلمن يريد التعمق، فإن لفظ (old guard) لا يعني الحرس القديم بالمفهوم الحسي الوضعي للفظ، بل هو مجازاً مجموعةٌ أو طبقةٌ سياسية أو اجتماعية محافظة غالباً ما تكون رجعية ترفض التجديد وتأبى التغيير. فهل هذا هو معنى الحرس القديم في العربية؟ إن الحفاظ على القديم في العربية فكرة إيجابية غير سلبية. لذا قال العرب احفظ قديمك فأنت لا تعرف جديدك. ولا يدوم لك إلا قديمك.   

ومنها كذلك التعبير (دم بارد)، نحو "قتلت القوات الأميركية بدم بارد" على حد قول أحد المراسلين من العراق، ترجمة حرفية حمقاء للتعبير الإنجليزي (in cold blood)، دون أن يُعمل الفكر في المعنى الأصلي وتفاهة التعبير العربي الذي لا يمت إلى الأصل بصلة. ولم يعد للتعبير العربي (عمداً) أو (عن سبق إصرار) أو ربما (بوحشية) أي مجال عندهم. وكأنهم فقدوا وسيلة تسخين الدم ولديهم أفران الميكرويف المستوردة! فتخالهم تحولوا جميعهم إلى زواحف باردة الدم؟ فهل وصل الغباء بهم إلى هذا الدرك الأسفل من المستويات اللغوية؟ ولا شك أن للفاروقي وغيره من المعاجم الثنائية مسؤولية كبيرة في ترسيخ هذه المعاني الحرفية المغلوطة الاعتباطية التي يتلقفها الأغرار بغير هدى. إليك بعض الأمثلة من مصادر إعلامية عربية ذات شأن وأثر، كلها تردد بلا استثناء: بدم بارد ، بدم بارد، بلا حياء!   

 

جنود بريطانيون قتلوا عراقيين بدم بارد : بوش (يمدح) رامسفيلد معتبره وزير دفاع قوياً.. وصحيفة عسكرية تطلب استقالته ومايرز.

 

الاحتلال يغتال خمسة فلسطينيين بدم بارد ، موجة من الهجمات المسلحة والعبوات الناسفة ضد الإسرائيليين.

 

العدو الصهيوني يرتكب جرائم الإعدام بدم بارد للجرحى في نابلس.

 

كما أكد شاهد فلسطيني أمس الثلاثاء أن جنود الاحتلال أجهزوا بدم بارد على ناشط فلسطيني أصيب خلال توغل جيش الاحتلال في نابلس قبل أن يستشهد وزميله.

 

لكنهم رفضوا هم الرحيل، فقتلوا بدم بارد، لم يكن هناك إمكانية أمامهم للهرب...

 

ويبدى مسؤولون فلسطينيون أمنيون وطبيون خوفا من عمليات قتل يرتكبها الجيش بدم بارد بعد العثور...

 

واعتبر بوش أن "قتل بول يظهر الطبيعة الشريرة لعدونا", مشيراً إلى أن هؤلاء "أناس برابرة. فلم يكن هناك مبرراً لقتله ومع ذلك قتلوه بدم بارد". و أشار إلى أن الجريمة "يجب أن تذكرنا بان علينا ملاحقة هؤلاء المجرمين وجلبهم إلى العدالة قبل أن يلحقوا الأذى بأميركيين آخرين".

 

والأمثلة كثيرة لا يمكن حصرها هنا. ولكن هذه العينة النموذجية تظهر لنا بكل وضوح حالة الهستيريا اللغوية التي تجتاح عالم المثقفين والمترجمين والإعلاميين العرب عامة. ومن الأمثلة على تلك الظاهرة كذلك التعبير (فتحت النار) ترجمة لـ (opened fire)، بدلاً من إطلاق النار، فكأنهم يفتحون حنفية. تأمل الأمثلة الآتية:

 

وكانت القوات الأميركية فتحت النار على حشد في بلدة الفلوجة بعد أقل من يومين من مقتل 13 عراقيا على الأقل برصاص الجنود الأميركيين.

 

تحت غطاء من المروحيات الإسرائيلية التي فتحت النار من الأسلحة الثقيلة وقامت قوة الاحتلال بتطويق منزل المواطن...

 

وقالت المصادر إن دبابات إسرائيلية متمركزة على مدخل بلدة بيت حانون ومخيم جباليا وبلدة بيت لاهيا شمال قطاع غزة فتحت النار من الأسلحة الثقيلة على مجموعة من الشبان الفلسطينيين الذين كانوا يرشقونها بحجارة، مما أدى إلى جرح ستة منهم.

 

كما اندلعت مواجهات مماثلة في منطقة باب الزاوية وسوق المدينة الرئيسي، حيث فتحت قوات الاحتلال النار أصابت العديد من المواطنين بحالات اختناق وأعيرة معدنية ونقل عدد منهم إلى مشفى عالية الحكومي. 

ومن الظاهر أن أدمغتهم قد غسلت غسيل الأموال على حد كثير منهم من التعبير الإنجليزي (money laundering). فقد طرح هذا التعبير الحرفي الجديد المصطلح القديم من التداول في العربية، وهو (تبييض الأموال)، الذي كان متداولاً في السبعينات (وليس السبعينيات، كما يحلو لوسائل الإعلام). فقد أفاق العرب مؤخراً على ظاهرة كانت إلى عهد قريب تتحكم في التصرفات اللغوية في الغرب، لا سيما في المجتمعات الناطقة بالإنجليزية، ألا وهي الكياسة السياسية (political correctness)، فراحوا يقلدون الغرب تقليداً أعمى في أمر صار من مخلفات الثلث الأخير من القرن العشرين. فتجد المفكرين والسياسيين والإعلاميين والمترجمين بخاصة يعانون تلعثماً فكرياً وتأتأة لغوية منبعها الالتصاق الحرفي بشكل اللغة الإنجليزية وأنماطها النحوية والصرفية، كما أشرنا في مناسبات سابقة، فيقولون مثلاً وفي آن واحد المشاهد والمشاهدة، والمترجم والمترجمة، والمريض والمريضة، وغير ذلك من تفاهات لغوية، في سياق عام يقتضي صيغة المذكر للاستغراق والتعميم، وليس للتمييز. حتى لتجدنهم يخلطون في العبارة الواحدة بين المذكر والمؤنث في مجتمعات تتوق إلى تحطيم الجدار العازل بين الجنسين والأبرتهَيت الجنسية ولو علانية. ولا شك أن البشر حين يعتريهم الشك وتعوزهم الثقة بأنفسهم يبدأون بتقليد تصرفات غيرهم ومن يعتبرونهم أرقى وأرفع شأناُ وأعلى كعباً منهم.        

ولقد سُنت القوانين الخاصة بمكافحة غسيل الأموال وعقدت المؤتمرات المتعلقة بغسيل الأموال، وأجريت الدراسات عن غسيل الأموال في بلاد تستورد الصابون والبرسيل والمكياج وكل مستلزمات الصحة اليومية. ولم يعارض أحدهم تلك التسمية المغلوطة، أو يقف عندها. بل راحوا كلهم ودون استثناء يرددونها كالببغاوات الحمقاء، مما يظهر لنا أن أولئك المتخصصين في النشرات الاقتصادية، وأهل الاختصاص في ذاك المجال، يعوزهم التخصص في المصطلحات التقنية، ويفتقرون إلى الملكة اللغوية بل إلى الوعي والإدراك، ويتميزون بالاعتباطية والشلل الفكري، بل الغباء أحياناً. فـالمعنى المجازي لــ (money laundering)، لا يستقيم في العربية إلا إذا كان غسيل الأموال لتنظيفها من أثر نجر إذ فُقدَ الحجر. فلمن يريد الاستئناس في المعاجم الإنجليزية الأحادية، فمعنى (money laundering) هو إخفاء مصادر المال غير الشرعي (concealing the source of illegally gotten money)، أي تمويه مصدر المال الحرام.

وقد نشأ هذا المصطلح في اللغة الإنجليزية للتعبير عن هذه العملية، أي تمويه مصدر المال الحرام، من واقع البيئة الحضارية والاجتماعية وعملية غسيل الثياب الشخصية في غسّالات عامة (Laundromat) ، أو ما يعرف بالمصابغ في بلاد الشام، بحيث تختلط وتضيع بين ثياب الناس الأخرى. وما يزال هذا السلوك الاجتماعي يمارس في المرافق العامة كالفنادق والشقق المفروشة والمغاسل والمصابغ التجارية وغيرها، والتي تقدم خدمات غسيل الثياب وكيها للعامة. ولا علاقة لكلمة (laundering) بالغسيل (washing). بل إن المعنى الاصطلاحي للكلمة مشتق من اختلاط الثياب فلا يعرف قميص فلان من سروال فلانة. أفلا ترون معي كيف ضاع المعنى المجازي في الترجمة الحرفية البلهاء؟   

أفليس من الأجدر أن يكون عنوان مؤتمر من المؤتمرات التي عقدت في العالم العربي مؤخراً وتحلق حولها جمهرة من جهابذة الفكر الاقتصادي العربي "تمويه الأموال الحرام"، بدل أن يرددوا بكل "بجاحة"(غسيل الأموال)؟ ولكن لفظ الحرام له مضامينه الدينية، فأبى أولئك أن يستخدموه، إن خطر لهم أصلاً، وآثروا استعمال الترجمة الحرفية الذليلة الحمقاء. وكأنهم يحسبون حساب الترجمة الارتجاعية لأسيادهم وأربابهم الخواجات لما هو مترجم ومستورد في الأصل من الإنجليزية فيخففون العبء على المترجمين ويسهلون عملهم. ولعلهم يمنعون كلمة (حرامي) من التداول في العامية مستقبلاً لارتباطها بالحرام.

 

تعبير (غسيل الأموال) أو الجريمة البيضاء يعتبر من التعبيرات التي تداولت مؤخراً في كافة المحافل المحلية والإقليمية والدولية المهتمة بالجرائم الاقتصادية والأمن الاجتماعي، والأمن الاقتصادي باعتبار أن عمليات غسيل الأموال ترتبط إلى حد كبير بأنشطة غير مشروعة عادة ما تكون هاربة خارج حدود سريان القوانين المناهضة للفساد المالي...

 

كما ثبت أن مسألة غسيل الأموال قائمة في مصر وتتمثل في بعض المشاريع السياحية الرهيبة التي تغزو منطقة البحر الأحمر والقادمة من الخارج، وقد كانت أكثر الصناعات التي يدخل فيها غسيل الأموال هي صناعة السيارات فقد كان تجار السيارات هم أكثر الناس القائمين بغسيل الأموال ...

 

تعتبر جرائم غسيل الأموال (Money Laundering) اخطر جرائم عصر الاقتصاد الرقمي، أنها التحدي الحقيقي أمام مؤسسات المال والأعمال، وهي أيضا امتحان لقدرة القواعد القانونية على تحقيق فعالية مواجهة الأنشطة الجرمية ومكافحة أنماطها المستجدة ، وغسيل الأموال ، جريمة ذوي الياقات البيضاء ، تماما كغيرها من الجرائم الاقتصادية التي ترتكب من محترفي الأجرام الذين لا تتواءم سماتهم مع السمات الجرمية التي حددتها نظريات علم الأجرام والعقاب التقليدية...

 

أقرت حكومة دولة الإمارات العربية المتحدة قانونا لمكافحة عمليات غسيل الأموال في إطار المساعي الدولية لمكافحة ما يسمى بالإرهاب.... 

ثم يطالعنا أحدهم بالحديث عن الجريمة المنظمة ومنظمات "العـــالم السفــلي"، في ترجمة حمقاء للاصطلاح (underground)، ولم يدرك بسطحية معرفته اللغوية وسذاجتها أن المعنى المجازي المقصود هو السر والخفاء، وأن المجرمين لا يعيشون تحت الأرض بل بين ظَهْرانَيْهِم وأنهم من علية القوم يجاهرون بما سرقت أيديهم، في المأكل والمشرب والملبس. فهل عجز العرب فعلاً عن التعبير عن فكرة المجاز الإنجليزي بتعبير عربي أصلي من واقع البيئة حتى لجأوا إلى تعبير مقترض بحرفيته؟  

هذه ظاهرة مرعبة تأسر أذهان وعقول جمهرة كبيرة من المثقفين العرب، يجوز لنا أن نسميها بكل جرأة وبساطة "متلازمة إجماع الجهلة"، فهي تنتشر كما تنتشر العدوى والأمراض السارية، فسرعان ما تجدهم يهذون بكلمات غريبة وتعبيرات لا تعني شيئاً في البيئة العربية...

هذه ظاهرة مرعبة تأسر أذهان وعقول جمهرة كبيرة من المثقفين العرب، يجوز لنا أن نسميها بكل جرأة وبساطة "متلازمة إجماع الجهلة"، فهي تنتشر كما تنتشر العدوى والأمراض السارية، فسرعان ما تجدهم يهذون بكلمات غريبة وتعبيرات لا تعني شيئاً في البيئة العربية، فتعيق التواصل بين أفراد المجتمع الواحد، لأن كل واحد منهم يغني على ليلاه التي تبرجت بطلاء مستورد تختلف مدلولاته وإشاراته من شخص إلى آخر ومجموعة إلى أخرى بحسب المصادر التي يقتبسون منها تلك المساحيق اللغوية واجتهاداتهم الفردية، فتتسع الهوة بين شرائح المجتمع الواحد وتتقطع أوصال الوطن الواحد على أسس لغوية. ولعل ذلك من أثر العولمة الثقافية التي أضحت تسيطر على مصادر المعرفة عندهم حتى رحنا نسمع بين الفينة والأخرى سياسياً يقول (لا تتحدث من فرسك العالي)، نقلاً عن التعبير الاصطلاحي الإنجليزي (to sit on a high horse) بمعنى الاستعلاء والغطرسة والعجرفة. فمن أين أتى هذا الرجل بذاك التعبير، ولطالما كان الفرس عند العربي رمزاً للعزة والإباء والفخار والكرامة، وليس للغطرسة والكِبَر والزَّهْو؟ ولقد اتُهم العرب مراراً بأنهم أمة لا تقرأ. ولكن ما نصادفه من تعبيرات وفكر من بعد لا يتأتى إلا من خلال القراءات والمطالعات التي لا بد أنها من مصادر أجنبية مباشرة أو مترجمة.           

ومن الأمثلة على "متلازمة إجماع الجهلة"، وسريان المحاكيات الاجتماعية واللغوية، قصة منع التجول ومنع التجوال. كانت وسائل الإعلام حتى مطلع السبعينات تستخدم عبارة (منع التجوّل). ثم قام أحدهم لأمر ما في مكان ما من دهاليز "صنع القرار" اللغوي باستخدام (منع التجوال) فراحت أجهزة الإعلام العربية في حالة أشبه بالهستيريا اللغوية باعتماد منع التجوال وتخطئة من يقول منع التجول. ولو استطردنا قليلاً هنا لوجدنا أن (التجول) لفظ أقرب إلى الواقع من لفظ (التجوال). فالتجول هو التنقل من مكان إلى آخر أو من نقطة إلى أخرى، من الفعل المطاوع تَجَوَّلَ يَتَجَوَّلُ تَجَوُّلاً: تنقّل وطوّف. أما التجوال فهو كثرة التجول. جاء في المعاجم: جَوَّلَ يُجوِّلُ تَجْوِيلاً وتَجْوَالاً: - البلادَ وفيها: طوَّفَ فيها كثيرًا. جاء في لسان العرب: التَّجْوال التَّطْواف ... والتَّفْعال بناءٌ موضوعٌ للكثرة كفَعَّلْت في فَعَلْت. فهل يعقل أن تمنع السلطات مثلاً كثرة التنقل وتسمح بقلته؟ وهل من يخرج في الليل آخذاً زوجته إلى المستشفى لتلد طفلها يُجوّلُ تجوالاً؟  

وتمتزج هذه الظاهرة الحمقاء بطغيان المنطق الأعوج الموتور في تحليل الأمور، وما يصاحبه من فوضى مصطلحية تعكس بلبلة فكرية، فتجد أحد المفكرين والمحللين يتشدق على شاشة التلفاز، دون أن يتحدى منطقه الأعوجَ أحدٌ، بأن الحق نتيجة طبيعية للمصلحة وأنهما واحد. فمن كانت له مصلحة في أمر ما، كاغتصاب أرض أو عرض مثلاً، فهذا "بالتالي" حقه! وهذا الترويج الخطير للمنطق المغلوط الذي يستند إلى استنتاجات واستدلالات لا علاقة لها بالمقدمات المنطقية (non sequitur) يظهر مدى الخلل الفاضح الذي ينتاب عقول أولئك الجهلة وتوافق أجهزة الإعلام الصامت والخفي معهم. فبين مفكر ذي منطق أعوج ومدقق يفتقر إلى الأسس اللغوية والوضوح الفكري والوعي والانتباه ("هو حَدّ سائل؟") ومترجم جاهل تعوزه الدقة والضبط والمهارات اللغوية الوظيفية والعملية وأدنى درجات الالتزام الخلقي باللغة والمادة، لا يكلف نفسه عناء البحث والتحصيل والدرس والتنقيب، تسري متلازمة إجماع الجهلة، وتسرسُ فيهم كما يسرسٌ السَرَس[1]، وتنتابهم جميعاً هستيريا الفوضى الفكرية والبلبلة المعرفية والخلل اللغوي، عن سابق عمد وإصرار وترصد وتربص.  

ولا شك أن المترجمين العرب ومن لف لفهم قد نجحوا كذلك في الفترة الأخيرة في تشويه رسالة الإدارة الأميركية المتعلقة بمشروع الشرق الأوسط الأكبر. فلسبب غامض ارتأوا، كما أشرنا في أكثر من مناسبة، أن يترجموا تلك العبارة بمشروع الشرق الأوسط الكبير، فألغوا المفاضلة في العبارة الإنجليزية ومارسوا الرقابة بحركة اعتباطية لا تنم سوى عن خلل ذهني وبلبلة فكرية، بحيث اضطرت الإدارة الأميركية إلى تغيير العبارة إلى "الشرق الأوسط الأوسع" (the broader Middle East). ومن الغريب العجيب أن فطاحلنا الإعلاميين والمترجمين لم يروا حرجاً ولا خللاً في ترجمتها بالأوسع، مما يظهر اعتباطية النقل والترجمة والتعريب عندهم وعدم اتساقها وثباتها، فهيلا يا واسع! وما فتئ الإعلاميون والسياسيون العرب يصرون إصرار الجاهل الأحمق على ترجمتهم الأولى للعبارة الإنجليزية الأولى. ورب سائل: "علام كل هذه الضجة والضجيج؟ أثمة فرق بين الكبير والأكبر؟" إن الفرق بينهما هو كالفرق بين الإبرة والمسمار والمبضع والمنشار. والأمانة العلمية والأدبية، بل والتاريخية والسياسية، تقتضي الدقة والضبط، لا تجاه مادة الأصل وكاتبها فحسب، بل تجاه القارئ المتلقي للمادة المترجمة الممضوغة. فمن كتب فقد كتب وجزاؤه ما كتب. أما من تلقى كلامه عبر الترجمة فحقه أن يبلغ الأصل بأدنى حدود التشويه والتشويش والخلل. وكأنما هناك تواطؤ بين عامة المثقفين العرب في انعدام للأمانة العلمية عندهم فلا يأبهون ولا يكترثون لصدق ومصداقية ما ينقلونه إلى جمهرة القراء والمستمعين والمشاهدين. وصديقك الإعلامي من صدقك النصيحة وأتاك بالخبر اليقين، لا من خدج الكلام وقنن المعرفة ومارس عليك الرقابة إما عمداً أو حمقاً أو جهلا، أو الثلاثة معاً.     

ولطالما شوّه العرب بهذا الأسلوب الاعتباطي الكلام العربي في ترجماتهم غير الواعية إلى اللغات الأخرى لاسيما اللغة الإنجليزية. خذ على سبيل المثال قول رسول الله (ص) "اليد العليا خير من اليد السفلى"[2]. فإنك لتجدنّ معظم المترجمين العرب وغير العرب في الشرق الأوسط الأكبر وما وراءه، ممن يتبعون منهج الترجمة الحرفيـة يترجمونـه بلا استثناء كالآتي: (The upper hand is better than the lower hand)، فيضيع المعنى المجازي الأصلي[3] والمقصود تماماً وينعدم انعداماً كاملاً (zero meaning)، بل يتشوه بإدخال المترجم دون وعي مجازاً أو اصطلاحاً إنجليزياً له معنى مختلف تماماُ (the upper hand) وهو الغلبة والهيمنة والسيطرة، وينحصر فيها. وقس على ذلك كثيراُ[4]. ولا من رقيب ولا حسيب. بل إن بعض الجهات المسؤولة، روحيةً أم دنيويةً، تجيز تلك الترجمات المغلوطة وتمهرها بخاتمها الرسمي. وسرعان ما تتكون فكرة أو أدب أو فلسفة أو سيرة من المحاكيات الحضارية الزائفة[5] التي لا تمت إلى الأصل بشيء. فهنيئا لنا بالتعددية الثقافية والمناظير المتنوعة والاجتهادات المختلفة التي تنجم عن خلل فاضح أو خطأ دسيس في الترجمة لا عن تفاعل الشعوب مع النصوص الأصلية.          

أثناء حرب تحرير الكويت عام 1991، قام المحللون النفسيون الأميركيون أنفسهم بتصميم مناشير الاستسلام باللغة الإنجليزية بهدف استقطاب الجنود العراقيين والاستحواذ على قلوبهم وعقولهم — كما يتكرر على ألسنتهم من عبارات مبتذلة (to win the hearts and minds of the Iraqi people) ويرددها الإعلاميون العرب كالببغاوات عبر ترجمات حرفية أكثر ابتذالاً ومنافاة لطبيعة الاصطلاح والمجاز في اللغة العربية — ودعوتهم للاستسلام تفادياً لزهق الأرواح. فبذلوا جهوداُ كبيرة في الاستشارة والاستخارة حتى رسوا على تصميم اعتقدوا أنه الأفضل لتحقيق الغاية المنشودة. وبعد جهد جهيد، من الواضح أنهم أعطوا التصميم لمترجم عربي أو مستعرب لقاء حفنة من السنتات فترجمه ترجمة حرفية على عادة المترجمين العرب في ترجمة النصوص الأجنبية.

وبعد هدوء العاصفة قام أحد البارزين في مجال التواصل التقني، وهو جون بروكمان، ومعه سال سيناترا، في عام 1995 بتحليل ذاك "الجهد الرائع" في مقال بعنوان "كيف ساعدت عملية التكرار الحلفاء في كسب حرب الخليج الفارسي"[6]. وراح يمدحه ويبجله معتبراً إياه نموذجاً يحتذى في إخضاع النصوص لعملية منهجية. ولم يدرك لا هو ولا أولئك المحللون النفسيون ولا رؤساؤهم أن جهدهم كله ضاع هباء منثوراً وبيانهم تشوه تشوهاً مريراً، لأنهم بمنظورهم الاستعلائي الأحادي اللغة والحضارة وعدم فهمهم لشروط ومستلزمات ومتطلبات الترجمة، لم يلتفتوا إلى عملية الترجمة وما تنطوي عليه من عمليات معقدة مشابهة إنْ لم تكن أكثر تعقيداً، فصرفوا ساعات وساعات في تصميم المناشير واختبارها، ثم كلفوا مترجماً لم يُعر تلك الأمور أي اهتمام، ولم يكلفوا أنفسهم عناء البحث والتحليل خارج ذاك المنظور الأحادي اللغة. فحصروا تصويرهم للجنود العراقيين بصور نمطية من مخلفات هوليود تتمثل بالمنسف واللحية والشاربين. فعند البطون تضيع العقول. ومن العرب من يفكر في العشاء وهو بعد لم ينته من تناول طعام الغداء! وتفننوا في ذلك فميزوا بين الجندي العراقي والجندي الكويتي وأخيه السعودي. فانظر إلى الصورة الآتية. فهل تستطيع أن تميز بين هؤلاء الجنود فيها؟

لاحظ هنا أن النص العربي هو في معظمه ترجمة حرفية للنص الإنجليزي، ويمكن رده بكل بساطة إلى أصله. إذ يشوبه خلل وعيب في لهجة الخطاب والعبارات الاصطلاحية العربية. فالجندي في حالة الحرب لا يتأكد من رغبته في المحافظة على حياته فضلاً ورجاءً، وإذا ممكن، والقنابل المنضّبة والمخصّبة والنار والحجارة والحديد واللهب تنهال عليه وتنصب من الجهات الأربع، وهو مختبئ يتضور جوعاً وعطشاً ويرتجف خوفاً وهلعاً في خندق يسمى بجحر الثعلب أو (foxhole) على طراز خنادق الحرب العالمية الأولى! فكأن ذاك الجندي في نزهة أو رحلة استجمام وخندقه حمام من الطين والصلصال في منتجع صحي. ومما لا يقبل الجدل أن هذا الأسلوب الركيك في العربية لا يتناسب مع الحالة النفسية للجنود أو فظاعة الحدث وهول المأساة. فلو تأملنا برهة النص الأصلي لهذا المنشور لاتضحت لنا غرابة الأسلوب البلاغي في الترجمة.  

النص الإنجليزي الأصلي: 

To Seek Refuge Safely the Bearer Must Strictly Adhere to the Following Procedures.

1.        Remove the magazine from your weapon.

2.        Sling your weapon over your left shoulder muzzle down.

3.        Have both hands raised above your head.

4.       Approach the Multi-National Forces position slowly, with the lead soldier holding this   document above his head.

5.        If you do this, you will not die.

 

نص المنشور العربي:

     إذا أردت المحافظة على حياتك، اتبع الآتي:

·        من فضلك اسحب مخزن الذخيرة من سلاحك.

·        احمل السلاح على كتفك الأيسر مع توجيه الماسورة إلى الأسفل.

·        للتأكد من رغبتك في المحافظة على حياتك، فضلاً ضع يديك فوق رأسك.

·        عند الاقتراب من موقعنا – اقترب ببطء - أي فرد من الأخوة في المقدمة يرفع هذه الوثيقة فوق الرأس.

·        بهذا نتأكد من عزمك على المحافظة على حياتك.

وسوف تنتقل لرعاية الأخوة العرب في أقرب وقت ممكن. وأهلاً ومرحباً بكم.

 

لاحظ هنا كيف تصرف المترجم بالبند الثالث فأدخل عبارة (للتأكد من رغبتك في المحافظة على حياتك). ولا ندري إذا كانت تلك ترجمة لنص لم يتوافر لدينا، أم أنها تعرّض ركيك للنص الأصلي. وأكثر الاحتمال أنها من تصرف المترجم. فبالإضافة إلى أن التعبير غريب لا يليق بالمناسبة، فهو واصف تائه أو متدلٍ، كما يسمى بالإنجليزية (dangling modifier). فمن الذي يتأكد؟ من عيوب الكلام والإنشاء عند العرب المبالغة في الإضمار، فكل شيء في قلب الكاتب أو بطنه أو مكان آخر منه فلا يعرف قائله. فكأن الجندي غير متأكد من "رغبته" في المحافظة على حياته، فإذا وضع يديه فوق رأسه نزل عليه الوحي بأنه يرغب في المحافظة على حياته. ولا شك أن هذا ليس هو المقصود.  

لاحظ كذلك استخدام لفظ (الوثيقة) في الترجمة مقابل (document)، بشكل اعتباطي مبرمج مستمد مما قدمه المورد وغيره من المعاجم العربية التي لم تتجاوز المعنى الأول للفظ الإنجليزي. ولو نظرنا إلى معنى (الوثيقة) في العربية أولاً لوجدنا الآتي:

 

الوَثِيقَةُ : مذ وَثيقٌ.-: ما يُحْكَم به الأمرُ؛ كانت ربْطةُ الحبْلِ وثيقة.- في الأمر: إحكامُه؛ استخدم طريقة وثيقةً في إدارة المشروع.-: مُستَنَد مكتوبٌ يُستدَلّ به لدعْم دَيْن أو حُجَّة أو ما جرى مَجْراهما.

فهل هي تلك وظيفة منشور الاستسلام؟ أما لو نظرنا إلى معنى (document) في الإنجليزية لوجدنا أنه لا ينحصر في الوثائق والمستندات، بل إن المعنى العام لتلك الكلمة هو: A writing that contains information.. ويعرف هذا في علم المنطق بالتواطؤ؛ وهو كون اللفظ موضوعاً لأمرٍ عام مشترك بين الأفراد على السواءِ ومتَّفقاً عليه. ومنشور الاستسلام بالتواطؤ ليس وثيقة رسمية أو مستنداً يستند إليه في حجة أو مسألة. وأهلاً وسهلاً بكم! تلك العبارة التي باتت تقض مضاجع الإعلاميين العرب، الذين يتخبطون بين عاقل حريص وجاهل متعنت وآخر محايد، فلا يرسون على حرف جر واحد! و{يجادلونك في الحق بعدما تبين}!  

وتتجاوز حرفية النقل خلل معاني الكلمات وفوضى المصطلحات وارتباك نظم التصنيف إلى المحسنات البيانية والأوجه البلاغية للعبارات والجمل. فتفقد النصوص وقعها المباشر وتميع وتهزل وتتحول إلى صور كركريّة[7] تفتقر إلى الأثر النفسي المنشود. المنشور الآتي من حرب الخليج الأولى (عاصفة الصحراء) يظهر بالرسم الطريقة "السليمة" للاستسلام، ويحذر من عاقبة عدم الانصياع لأوامر القوات الغازية فالمحتلة.  

 

فلو قارنا هذه الترجمة بالنص الإنجليزي الأصلي:  

We have already informed you of our promise to bomb the 7th Infantry Division.  We kept our promise and bombed them yesterday. BEWARE.  We will repeat this bombing tomorrow.  Now the choice is yours. Either stay and face death, or accept the invitation of the Joint Forces to protect your lives."

 لوجدنا أن حرفية الترجمة شكلاً ومضموناً أفقدت النص الإنجليزي وقعه. وإشكالية (already) التي تقض مضجع جمهور المترجمين واضحة، وتكمن في عدم دراية المترجم بوظيفتها البلاغية في النص الإنجليزي مما حمله على اعتماد المقابل المعجمي الذي قدمته له المعاجم الثنائية العربية المحدودة (قبل الآن ، وسبق أن، وكان قد ...)، فلم يفطن إلى القصد البلاغي منها. وترجمته لـ (promise) بـ (العزم) أولاً ثم (الوعد) ثانياً خطأ. فكلمة (promise) لا تعني العزم، إذ أن العزم هو الصبر والجِد والثّبات والشدّة فيما يوطِّن المرءَ نفسه عليه. وعـلى قَدْر أَهْلِ العزْم تأتي العزائِمُ. وتحتمل الخير والشر، أي الوعد والوعيد، في الإنجليزية. أما لفظ (الوعد) في العربية فقد غلب عليه الخير، فقال العرب وعد وعداُ في الخير وأوعد وعيداُ في الشر. وهناك من يخلط بين الاثنين، ولكنه ضعيف. أما ترجمته لـ (we kept our promise) بـ (ولقد حافظنا على وعدنا) فتخالف لهجة الخطاب في النص الإنجليزي وتفقد النص العربي وقعه. فأنت لا تحافظ على وعدك بالقصف وكأنك قد عدت عليهم بالخير والمنفعة. وكان حرياُ به أن يقول (أنجزنا وعيدنا). قال ابن الرومي في رثاء ابنه محمد:

 

لقد أنجزت فيه المنايا وعيدها                   وأخلفت الآمالُ ما كان من وعد

أما اعتماد (سين سوف) في العربية فهو أيضاً تشويه للوظيفة البلاغية للنص الإنجليزي فجاءت الترجمة خالية من التوكيد: 

BEWARE. We will repeat this bombing tomorrow!

 احذروا. سنكرر القصف مرة أخرى غداً!

ومن المآخذ على هذه الترجمة أيضاُ صيغة (نكرر) + (مرة أخرى) مقابل (repeat) ). وهذا خطأ لغوي. فأنت إذا كررت العمل قمت به مرة أخرى. وكذلك ترجمة

accept the invitation of the Joint Forces to protect your lives

 بـ  (قبول دعوة القوات المشتركة للحفاظ على حياتكم). فكأنها دعوة إلى عرس أو حفلة ساهرة أو منسف لا قصف! وكان من الأفضل ترجمة (invitation) بمعناها الوظيفي في النص (نداء) دون الخروج عن معالم النص الأصلي أو نطاق المعنى.  

لاحظ هنا، كما في المناشير الأخرى، الخطأ والركاكة في ترجمة النص الإنجليزي، وبشكل خاص كيف تحولت المقاومة (resistance) إلى (قتــال) في النص العربي. ولنا هنا وقفة. فمن الواضح أن المترجم المنحاز تغرض في ترجمته لهذا المنشور، إذ تجنب استعمال كلمة (المقاومة) كيلا يفهم منها، على الأرجح، المقاومة المشروعة ضد الغزو والاحتلال. وهذا تعرض غير مشروع في الترجمة. ناهيك عن غرابة الترجمة العربية للجملة الإنجليزية: 

To seek refuge safely, the bearer must strictly adhere to the following procedures:

 

للبحث بالسلام عن الملجأ، يجب على حامله التقيد بالخطوات التالية.

ولا أدري من أين نكش المترجم هذا التعبير (للبحث بالسلام عن ملجأ). ولا يعقل أن يكون قد صدر عن مترجمين عرب، على ما فيهم من تدهور للمقاييس والمعايير اللغوية. بل من الواضح أن قوات التحالف عهدت بالترجمة إلى مستعربين لانعدام الثقة في حلفائهم العرب، أو أوكلتها إلى من أمضوا ردحاً طويلاً من الزمن بعيداً عن اللغة والاصطلاح فطغت على عقولهم أنماط لغوية وتعابير أجنبية خرجت بأصوات وحروف عربية. ويوم يوسّد الأمر إلى غير أهله. واللافت للنظر هنا الإشارة في النص العربي إلى الجندي العراقي بالفرد. لاحظ أيضاٌ لهجة الخطاب في (حامله) على طريقة كتابة المستندات في الدوائر الرسمية والحكومية والمعاملات المصرفية وغيرها، فكأن المترجم كان يعمل في إحداها.

لاحظ كذلك ترجمة الجملة (Sling your weapon over your left shoulder, muzzle down) وكيف تعامل المترجم مع الظرف (muzzle down):

 

احمل سلاحك على كتفك الأيسر مع توجيه الماسورة إلى الأسفل.

إن فعل الأمر (احمل) لا يؤدي المعنى المقصود من (sling) بل (علّقْ)، استدلالاً بأن للسلاح رباطاً أو حمالة يعلق بها من الكتف. وهذه ناحية مهمة في حالة الاستسلام، لاسيما إذا لم يكن للسلاح حمالة! ثم إن تحويل الحال (muzzle down) إلى شبه جملة (مع توجيه الماسورة إلى الأسفل)، يقصد فوهة السلاح، بدلاً من اعتماد الحال في العربية، هو من خصائص الإنشاء الضعيف والركيك الذي يتفشى في اللغة العربية المعاصرة، لا لشيء وإنما لكسل وعدم دراية.

 علّق سلاحك من كتفك الأيسر موجهاً الفوهة نحو الأسفل.

في المنشور الآتي، يُلاحظ أولاً تغطية عبارة (الله أكبر) في العلم العراقي بالدم. ولا ندري ما إذا كان رد فعل المواطن العراقي المحرر تجاه ذلك سلبياً أم إيجابياً. ومن المفارقة أن النص المصاحب للعلم يفيد بأن صدام (... مستعد للتضحية بكم جميعاً وبالأماكن المقدسة...). أوليس في تشويه لفظ الجلالة بهذه الطريقة مساس بالمقدسات؟  ثم لاحظ الرسم الكركري لصدام رافعاً يديه وكأنه يقول (لا دخل لي بهذا!). 

 Saddam is the only reason for bombing Iraq.

ويظهر منشور الاستسلام الآتي [8] ، والذي استخدمته قوات الائتلاف في حملتها على العراق في 23 آذار/ مارس 2003 ، التعارض بين الأسلوبين الإنجليزي والعربي.

بغض النظر عن الخطأ اللغوي في عبارة النداء (أيها القادة والجنود العراقيين) بدلاً من (أيها القادةُ والجنودُ العراقيون)، فإننا لا نحتاج هنا سوى أن نركز على الجملة الأخيرة في المنشور الإنجليزي (Make Clear Your Intentions)، وكيف قام المترجم العربي بترجمتها إلى (بيـّنوا حسن نواياكم). إذ نجد أن المترجم تصرف بكلمة (intentions) بواقع البرمجة اللغوية عند معظم الذين يتعلمون لغة ثانية، ناهيك عن فقدان الوقع التصوري الذي تحمله النسخة الإنجليزية، والتي لم تعر الفروق المطبعية والفنية بين اللغتين الإنجليزية والعربية أي اهتمام، فاضطرت طابعَ النص العربي، الذي لا بد أنه كان المترجم نفسه كالعادة، إلى حشر النص العربي في الحيز المخصص للنص الإنجليزي، دون مراعاة خصوصية اللغة العربية من حيث الكتابة والخط ومستلزمات الطباعة والإعلان. كذلك فقد قـــدّم الكاتب في الإنجليزية لفظ (clear) على (your intentionsفلم يقــل (Make your intentions clear)، وذلك لنقل التركيز وتحقيق التوكيد بصيغة الأمر في الجملة الإنجليزية. أما الترجمة فجاءت هزيلة خالية من القوة البلاغية.

المنشور الآتي[9] يثبت إثباتاً دامغاً ضعف الأسلوب العربي في الترجمة وافتقاره إلى الفصاحة والبلاغة والدقة في ترجمة النص الأصلي. 

إن نصّ الصورة هنا (Artillery units have been targeted for destruction.) لا يروي رواية للقارئ، بل يحمل إنذاراً بقرار يهدف إلى تدمير الوحدات المدفعية أينما كانت. ولم ينتبه المترجم إلى الوظيفة البلاغية لصيغة الفعل الزمنية للمضارع في الإنجليزية وما يقابلها من أسلوب بلاغي في العربية فترجم (have been) بـ "لقد"، كما تعلم في المدرسة، بصيغة الماضي على هذا النحو: لقد استُهدفت وحدات المدفعية للتدمير. ولا تتأتى للقارئ صيغة الفعل المجهول إلا بشق النفس. ذلك أن العربي، لا سيما المعاصر، يأنف من صيغة الفعل المجهول فيلجأ إلى صيغ الفعل اللازم (تم، جرى، وقع، الخ). وكان حرياً به أن يحول الجملة الفعلية المضارعة إلى جملة اسمية فيقول: استهداف الوحدات المدفعية، أو إلى جملة اسمية خبرها جملة فعلية بحيث تفيد التجدد، نحو: الوحدات المدفعية استهدفت! فلا ينبغي أن يغيب عن بالنا أن هذه المناشير معددة لغرض معين ومصممة لغاية محددة تهدف إلى إحداث رد فعل خاص عند قارئها، وأن الالتزام بالأشكال والأنماط اللغوية النحوية والبيانية والبلاغية للنص الأصلي يفقدها ذاك الواقع المنشود. فكما أخضع المحللون النفسيون الذين صمموا المناشير الأصلية تلك المناشير لعملية تكرارية لتحقيق الغاية منها كان من واجبهم أيضاً أن يخضعوا الترجمة لعملية مماثلة تكيف النص الأصلي بما يستوفي شروط البيان والبلاغة في لغة الهدف، في منهجية تعرف بـ "الاستغراض" أو (repurposing).      

لاحظ هنا أيضاُ معالجة المترجم للجملة الأخيرة في الجزء الثاني من المنشور، واعتماد النص الأصلي لصيغة المجهول (these weapons will be destroyed)، وكيف التصق المترجم بالصيغة ذاتها في العربية (ستُدمَر أجهزة السلاح هذه...) ببنائها الأخرق وتأخير اسم الإشارة وجوباً، مما أفقدها الوقع البلاغي الذي تحمله الجملة الإنجليزية الأصلية. فإحدى وظائف صيغة المجهول في الإنجليزية هي التوكيد ونقل التركيز من الفاعل إلى الفعل. وقد اعتُمدت هذه الصيغة في المنشور للتركيز على فعل التدمير ولاستبعاد الفاعل البشري فجاءت العبارة قاسيةً فظةً غليظةَ القلبِ خاليةً من الوجه الإنساني والرأفة والرحمة واللين. أما العربية فتأنف عادة من استعمال صيغة المجهول، كما قلت، فتلجأ إلى صيغة الفعل اللازم المعلوم المساعد، كما أسلفنا، نحو (سيتم تدمير ...). وهو ما يدعى بالبديل البلاغي الإنتاجي، ذلك أن معظم اللغات يجنح إلى صيغة الفعل المعلوم إذا توافر هذا الخيار فيها. ولكنْ لهذه الصيغة في العربية وظيفة تختلف عن صيغة المجهول في الإنجليزية ولا يمكن استعمالها عوضاًُ عنها لتوليد التوكيد في الجملة العربية. بل تلجأ العربية هنا إلى أساليب التوكيد المختلفة بصيغة الفعل المعلوم. ناهيك عن استعمال سين سوف في العربية للاستقبال والتي تعمل عملاً بلاغياً مخالفاً لعمل (will) في الجملة الإنجليزية. فصيغة المستقبل في الإنجليزية ههنا تفيد الحسم والفصل والجزم والتوكيد. أما (سين سوف) في العربية فهي للتنفيس والتسويف والاستقبال لا التوكيد (ستُدمر أجهزة السلاح). خيراً إن شاء الله. وقيل سوف أبلغ في التنفيس من السين. وكما قال الشاعر:

 وما حالةٌ إلا سيُصرفُ حالُها      إلى حالةٍ أُخرى وسوفَ تزولُ

في المنشور الآتي، نجد أن المترجم على عكس ما سبق، اختار نهج الترجمة الاستدلالية (inferential translation) ، وهو نهج تعرضي يخرج الترجمة عن مقاصدها الأصلية، أو يشوهها.

لاحظ هنا ركاكة الأسلوب العربي واختفاء الجملة الموصولة (who attempt to…) وتحويلها إلى نعت (المحاولين) بحيث فقدت مؤداها الأصلي، بدلاً من (الذين يحاولون). ثم لاحظ كيف أسقط المترجم كلمة (vehicle) من الترجمة، لعدم درايته بربط الكلمات بعضها بعضا نحوياً، فيما يدعى بـ (parsing)، أو الإعراب، وكيف ترجم (evade) بـ (تجنّب).  ولا شك أن ثمة فرقاً بين (evade) و (avoid)، وبين (أفلت) أو (تهرّب) و (تجنب). أما ترجمة (you have nothing to fear) بـ (عليكم عدم الخوف) فهي من ركيك الكلام وضعيـفه، وتشويه للمعنى الأصلي، فكيف يكون لزاماً عليكم عدم الخوف؟ وفي تقديم جواب الشرط (apodosis) على الشرط (protasis) نقل للتركيز وإضعاف للتوكيد (عليكم عدم الخوف إذا كنتم لا تدعمون صدام) بدلاُ من (إذا كنتم لا تدعمون صدام فلا خوف عليكم). وتعبير (لا خوف عليكم) هو اصطلاحاً ما يقابل (have nothing to fear) والتي يمكن ترجمتها كذلك بـ (فليس ثمة ما تخشونه) أو (فلا داعي للخوف).   

المنشور الآتي يظهر مدى التصاق المترجم بحرفية الشكل المعجمي للكلمات.

النص الأصلي:

Attacking Coalition aircraft invites your destruction.

لاحظ هنا الترجمة الحرفية لكلمة (invite) بـ (يدعو). وهذا أمر يدعو للعجب فعلاٌ. فالمعنى الوظيفي البلاغي هنا هو: يعود أو يجر، كما في التعبير (this will invite trouble)، فكان حرياً به أن يقول: (مهاجمتكم لطائرات الائتلاف ستعود عليكم بالدمار)، أو شيئاً من هذا القبيل.  

النص الأصلي: 

Do not fire at Coalition aircraft. If you choose to fire, you will be destroyed. Coalition forces will attack you with overwhelming force. The choice is yours.

لاحظ هنا الحرفية المقيتة في النص العربي (إذا اخترتم إطلاق النار فسوف تدمرون)، فكأن الجندي العراقي يختار من قائمة في مطعم أو نشاط عادي آخر. واستعمال أداة الشرط (إذا) فيه خطأ، ذلك أن (إذا) هي في الأصل لما هو محقق الوقوع في كل ما يقطع المتكلم بوقوعه في المستقبل. أما (إنْ) فهي لعدم جزم وقطع المتكلم بوقوع الشرط في المستقبل. ويتلوها لفظ المضارع لاحتمال الشك في وقوعه. لذا لم يقل النص الإنجليزي (If you fire, you will be destroyed)، فاحتمال الشك في إطلاق النار وارد، ومقصود لبث الشك والريبة في نفوس الجنود العراقيين، فارتأوا إبعاد الفعل بإقحام (choose)، لإفساح المجال، وهم على ثقة بأن المترجم سينجح في نقل الأسلوب بأسلوب مقابل مواز.

لاحظ كذلك اختفاء التعاطف الإنشائي والربط بين الجمل العربية. ثم لاحظ عدم فهم المترجم للفظ الشمولي (aircraft) فإذا بها طائرة واحدة! ثم تقديم الجار والمجرور على المعرفة (لكم الخيار) بدلاُ من (الخيار لكم). وكان حرياً بالمترجم أن ينقلها نقلاُ اصطلاحياُ (الخيار بأيديكم)، أو (الأمر بيدكم).   

لاحظ في هذا المنشور الذي القي على الجنود العراقيين خلال عاصفة الصحراء، استعمال حرف الجر (لـــ) بشكل مبهم في عبارة (عبور الحدود للقوات المشتركة). فرغم أن القرينة المنطقية تقتضي (عبور الحدود إلى القوات المشتركة) فإن استعمال اللام قد يولد المعنى (حدود القوات المشتركة)، وهو تركيب ضعيف شائع في العربية المعاصرة للتعبير عن الملكية، وتميز به بعضُ الأقطار العربية، نحو قولهم: المكتبة الجديدة للجامعة، أي مكتبةُ الجامعةِ الجديدةُ، والمحرك القوي للسيارة، أي محرك السيارة القوي. ثم استعمال (حتى) في عبارة (حتى يصل إلى أقرب قيادة للقوات المشتركة آمناً مطمئناً...)، فحامل البطاقة يبقى آمنا إلى أن يبلغ أقرب قيادة...وبعد ذلك حسبه ما يلقى.    

وخلاصة هذا العرض للمناشير أن للترجمة الحرفية أثراُ تراكمياٌ يشوه النواحي البلاغية للنصوص الأصلية. وهذه ظاهرة مزمنة تسود الترجمة العربية في شتى ميادين المعرفة والعلوم. ومن الحرفية المقيتة التي تظهر عجز المترجمين والإعلاميين العرب وقصورهم وتأثرهم الحرفي بالمصطلحات والتعابير الاصطلاحية الإنجليزية عبارة (يُحدث فرقاً)، نحو قول إحدى المذيعات مؤخراً: "هل يحدث تعيين حكومة جديدة في العراق فرقاً؟"، والتي تنوب عن أحد زملائها بين الفينة والأخرى فتعامل الضيوف كما تعامل المتصلين في برنامجها باستعلاء وكبر وسخرية وتقاطعهم قبل أن ينهوا فكرتهم؛ فالفكرة بل وجهة نظر الضيف دائماً تصل إليها قبل أن يكمل الضيف أو المتحدث كلامه. فكأنها بذكائها الخارق الاستباقي محام في محكمة يقوم باستجواب شهود الغريم ، بنعم أو لا ، فكل ضيوفها غرماؤها وهم مغرمون مفتونون بها. ولا يهمها أن تسمع التفاصيل. وهذا هو أسوأ أنواع الحوار. فمقدم البرنامج هو المحاور والمِحوَر. وإن العيون التي في طرفها حور ... وعليكم الســــلام! ولا بد من دراسة علمية للآثار النفسية للسماعة التي تحمل توجيهات المخرج بل صراخه في آذان المذيعين المذيعات ويتردد صداها عندما يخلدون إلى النوم في المساء أو ربما الصباح.        

وبالطبع فإن عبارة (يُحدث فرقاً) هي ترجمة اعتباطية للتعبير الإنجليزي (to make a difference). والعامة تقول "ما بيعمل فرق" و "ما بساوي فرق" و "ما بيفرق". واجتهدت المذيعة، أو من أعد البرنامج لها والذي ربما وضع الأسئلة بإيعاز وتوجيه وإرشاد من معلمه ومرشده الخواجه أو خبير الإعلام المستورد أو قرأها من مصادر إنجليزية، فلم تقل (يصنع فرقاً) كما فعل سابقوها بـ (يصنع القرار). فكأن اللغة العربية عاجزة عن التعبير عن الفرق. ولكنها لا تقدم ولا تؤخر. والأمر سيان، وسواء، ولا يَفْرُقُ الأمر. {وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ}.  

وللاستطراد هنا، ولنفـرق الأمرَ للقارئ الكريم، شـاعت في بعض المناطق الأسبانية لعبـة تدعى بالإسبـانية (furcado). وهي عبارة عن اصطفاف طابور من الرجال، يقوم الواحد تلو الآخر بمهاجمة ثور يكون قبالتهم فينطحونه بدل أن ينطحهم. ويستعمل المساعدون عصا طويلة مفروقة الرأس لردع الثور فيما إذا لم يعد يتحمل النطاح. وكان الجند في الماضي وفي نهاية الحقبة الأندلسية يستعملون تلك العصا الطويلة المفروقة لتفرقة الجماهير، التي كانت تحتشد لمشاهدة اللاعبين وهم ينطحون الثور المسكين، وذلك عند وصول الملك وحاشيته. وكان الجند يصيحون في الناس بالعربية: تفرقوا! تفرقوا! وهم يهشون عليهم بالعصا الطويلة المفروقة. فهل يدرك القارئ الكريم أصلة الشوكة (fork) في الإنجليزية؟                     

من الواضح أن المجاز والتعابير الاصطلاحية من أشد الأمور خطورة في منهج الترجمة الحرفية الذي يتبعه معظم العرب في تعاملهم مع النصوص الأجنبية. فلو أخذنا مثلاً التعبير المتداول في الإعلام العربي (تمرير المشروع) كما في (الرئيس الأميركي يحث الكونغرس على تمرير المشروع الخاص بالعراق)، لوجدنا أنه ترجمة حرفية لـ (the US president urges Congress to pass the Iraq resolution)، ولاتضح لنا أن المترجم أخفق في فهم أو نقل المعنى الاصطلاحي للفعل (pass) في (pass the resolution)، وهو الموافقة أو التبني وليس التمرير. فكما تعلم أيها القارئ الكريم، تمرير المشروع في العربية هو بمثابة تمرير المؤامرة من حيث الاصطلاح اللغوي.  

وسق على ذلك ترجمتهم للتعبير الاصطلاحي المركب (to jump to conclusions) بــ (يقفز إلى النتائج). فمن عجيب أمرهم وغريبه أنهم يقفزون فوق اللغة وذخيرتها الحية، كلاعبي الجمباز، ويحكمون على مصطلحاتها ومفرداتها بالموت. فلم يعد في اللغة ما يؤدي معنى ذاك التعبير الإنجليزي كالتسرع بالحكم أو الحكم جزافاً، الخ.     

ولو عدنا إلى التعبير المجازي الإنجليزي (to win the hearts and minds of …) الذي يجمع بين المجاز والكناية، لوجدنا الإعلاميين والمترجمين العرب يترجمونه بلا استثناء كالآتي:

يكسب أو يفوز بـ أو يربح قلوبهم وعقولهم.

 تأمل الأمثلة الآتية:

 

نحن هنا بصدد ضباط بلا جنود والضباط هم النخبة ولكنهم بأمس الحاجة لأن يخاطبوا أبناء الشعب ويكسبوا قلوبهم وعقولهم حتى لا يصلوا إلى طريق مسدود.

 

كسب قلوب وعقول العراقيين على الطريقة الأمريكية.

 

بريطانيا تشن حملة لكسب عقول وقلوب المتطرفين وأنصار (القاعدة)!

 

فمن المفروض أن تعكف هذه الحكومة علي تحقيق الأمن في ربوع البلاد، وإعادة بناء مؤسسات الدولة، العسكرية والأمنية والسياسية والاقتصادية وكسب قلوب وعقول العراقيين من خلال خطوات مدروسة...

وفي هذه الترجمة خلل في تلازم الكلمات للكلمات (collocation) وطبيعة المجاز في العربية. فالعربية لا تستخدم لفظ كسب أو فاز أو ربح مجازاً على هذا النحو كما في العبارة الإنجليزية. ودون الخوض في تفاصيل لغوية معقدة، فمن شروط المجاز تجاوز اللفظ معناه الحقيقي إلى معنى غير حقيقي لقرينة منطقية بين المعنيين، نحو كسَبتُ خيراً واكتسبتَ شراُ، وكسب ودّهُ ، وكسب ولاءه بالرشوة والمال، وكسب ثقة قومه. فتجد ههنا الجمع بين المعنى الحسي للفعل (كسب) والمعنى العقلي للخير والشر والود والولاء، فكلها معانٍ لا تدرك بالحواس بل بالعقل. ولم يستخدم العرب تعبير (يكسب قلبه) بهذه الطريقة، ذلك أن القلب مادي حسي. فلم يجمعوا بين المجاز والكناية كما جمعته الإنجليزية في تعبير (to win the hearts…)، فكنّت بالقلب عن الود والولاء. وكل نفس بما كسبت رهينة. ولكنهم يرددون كسب القلوب والعقول بكل ثقة وعنجهية حتى نكاد نصدق ما نسمع منهم من ترهات لغوية، ولكن يأبى العقل والمنطق السليم والسليقة اللغوية أن تقبل بتلك الرعونة اللغوية والبلادة الفكرية التي نراها في معظمهم حتى في أولئك المتبجحين بالتخصص في اللغة والترجمة، الذين لا يعرفون الفرق بين الجرح البـــالغ والبليغ وأن البالغ هو الجسيم والبــليغ هو النافذ، كما في طعنه طعنة بليغة، أي نافذة. ولا يميزون بين الفعل اللازم والفعل المتعدي فيصرون إصرار الأحمق على إثـــــراء اللغة العربية بدلاً من إغنــائها، ذلك أن فعل أثرى لازم لا يتعدى إلى مفعول به إلا عند أولئك الحمقى الذين يعتدون على كل شيء فما بالك على الأفعال؟  

وحتى إذا قبلنا بذاك التجديد المبتذل على مضض وفي المعدة عصارة مرارة تشعر المرء بالغثيان، فإنك لتجدنَّ عجزهم في تعديل العبارة الحرفية بما تقتضيه قواعد الموسيقى اللفظية وينشده الذوق الرفيع عجيباً غريبا. فلا يقولون (يكسب عقولهم وقلوبهم) ، ذلك أن العين أسلس من القاف في انسياب الصوت وانتقاله من مقدم الفم إلى الحلق  من الباء المضمومة إلى العين المضمومة. بل يحبون القلقلة، لا سيما في لفظ (العراق) ويصرون على الترتيب الإنجليزي شكلاً وقالباً (يكسب قلوبهم وعقولهم)، فكأنك تشد الكابح في حلوقهم. وكيف لا وهم صادقون مخلصون في نقل المعارف والعلوم والمعلومات؟ ولكن اللغات تعتمد أنماطاً وقوالب تعبيرية جامدة مختلفة، ولا يجوز القلب والتقديم والتأخير، إلاّ ضمن شروط معينة. وهذه الأنماط تخضع للشروط الآتية[10]:

1)    الإيقاع والموسيقى والسجع

2)    التسلسل المنطقي

3)    التسلسل الزمني

4)    التسلسل المكاني

5)    البنية النحوية

6)    التسلسل الكمي

7)    التسلسل الاصطلاحي

ولا بد عند الترجمة من مراعاة هذه الشروط والتقديم والتأخير لاسيما إذا كان المعنى واحد، وليس هناك شرط آخر يمنع ذلك. فأنت لا تستحوذ على القلوب ثم العقول أو العقول ثم القلوب، بل على الاثنين معاً. لذا وجب مراعاة شرط الإيقاع والجرس والموسيقى عند النقل.    

ومن الأمثلة على الالتصاق بحرفية الشكل وسطحية المعرفة وتجاوز المحسنات البيانية والبديعية في اللغة العربية قولهم: "عودة السيادة إلى الحكومة والشعب العراقيين"، ترجمة لـ (the return of sovereignty to the Iraqi government and people.)، فكأنهما كيانان منفصلان لا علاقة للواحد بالآخر، توزع السيادة عليهما، فكأنما سيادة الحكومة العراقية شيء وسيادة الشعب العراقي شيء آخر. فإذا كانت الحكومة بلا سيادة كان للشعب سيادة ، وإذا كان للشعب سيادة كانت الحكومة بلا سيادة. وهذا بالطبع ليس هو القصد والمغزى في الجملة الإنجليزية بحكم الطبيعة الإنشائية والبلاغية الخاصة باللغة الإنجليزية. فلو أرادت اللغة الإنجليزية تفصيلاً من هذا القبيل لقالت (the Iraqi government and Iraqi people)، على سبيل الافتراض لا التعميم. ولكن ما يقابل (the return of sovereignty to the Iraqi government and people.) من ناحية المعنى البلاغي في العربية هو (عودة السيادة إلى العراق حكومةً وشعباً). ولكن العربية المعاصرة بحكم التبعية اللغوية تكاد تسقط أنماطاً لغوية مهمة كاسم التمييز والمفعول المطلق وتوافق البعضية. ويخفق الكثيرون في التعامل مع الأنماط اللغوية في اللغة الإنجليزية. فتجدهم يترجمون الجملة الآتية: (Give the child extra fluids to drink) على هذا النحو: 

  • أعط الطفل سوائل إضافية للشرب.

  • أعط الطفل سوائل إضافية ليشربها.

  • أعط الطفل سوائل إضافية يشربها.

وجميع هذه التخريجات ومشتقاتها خطأ، فالنمط (give + to drink) هو طريقة اللغة الإنجليزية في تعدية الفعل اللازم حيث لا يوجد فعل متعد يقوم مقامه. ومعنى الجملة هو: شرّب أو أشرب الطفلَ سوائلَ إضافيةً. فليس المقصود من الجملة الإنجليزية أن يعطى الطفل السوائل بمعنى تقديمها، بل إشرابه السوائل. وهنا يشترك المترجمون العرب مع زملائهم في اللغات الأخرى من حيث عدم درايتهم بوظيفة التعدية في ذلك النمط الإنجليزي.  

وإن شاؤوا الابتعاد عن الترتيب الحرفي وجدنا أنهم لا يميزون في الاستغراق فيقولون: "لقي جنديان أميركيان مصرعيهما في بغداد اليوم"، ترجمة لـ (Two US soldiers were killed in Baghdad today.). والمصرع هو الموت، وهو موضِعٌ ومَصْدَرٌ واسم استغراق لجنس، فلا يقال:"لقي جنديان مصرعيهما وثلاثة جنود مصارعهما"، بل مصرعهما ومصرعهم تباعاً. أما التثنية والجمع فهي بمعنى موضع الصرع، نحو مصرع الإنسان بين فكيه. ومَصَارعُ القومِ حيث قتلوا. وما سبب هذه المشكلة سوى الترجمة الحرفية عن مصادر إنجليزية دون وعي أو سليقة أو بديهة أو فطنة لغوية تحتم عليهم الترجمة الواعية والنقل السليم.   

ونحن لا نلوم هؤلاء المترجمين والمسترجمين فهم لم يتلقوا التدريب اللائق في تقنيات الترجمة. فقد قيل مراراً إن مهنة الترجمة مهنة من لا مهنة له. فأنت صحافي إذاً أنت مترجم. وأنت إعلامي إذاً أنت مترجم. وأنت عاطل عن العمل وتعرف بضع كلمات في لغة أخرى فأنت إذاً مترجم أو ترجمان! ولقد بالغت الجهات المختصة — سواء أكانت في مجامع اللغة العربية التي نادراً ما يُسمع لها حس أو نفس وصارت تفتقر إلى الجبروت اللغوي، أم في وسائل الإعلام المجير أو المؤجر أو الموجه أو المغرر به، أم في مجالات التربية والتعليم — بالغت في التبسيط إلى درجة التفريط، وخلطت بين اللغة وطرائق تعليمها، فرأت في اللغة صعوبة على أجيال ماكدونالد وكوكا كولا وكنتاكي فرايد تشكن وبتيزا هات، وغيرها من مظاهر الترف الاجتماعي والبطالة الفكرية وآنية الوجود والانزلاق. فكيف يعبر المرء العربي عن منتهى وجدانه بكلام حرفي مترجم منقوص من اللغات الأخرى وبمحاكيات لا تمت إلى الأصل بصلة ولا تعبر عن الفرع تعبيراً واضحاً وكاملاً؟  

لقد كتب أديب مروة في عام 1961 في "الصحافة العربية نشأتها وتطورها"[11] يقول: إن الأسلوب السهل المشرّف الذي وصلنا إليه اليوم في الكتابة بلغتنا العربية، لا يعود الفضل فيه إلى معلمي اللغة في المدارس والكليات ، ولا يعود الفضل فيه إلى الكتّاب والأدباء القدامى ، بل الفضل الأول في هذا الأسلوب يعود إلى الصحافة اليوم". بل لا بد من القول هنا إن الفضل في ذلك للترجمة والتفاعل مع اللغات الأخرى. بيد أن الإعلام المرئي اليوم والنقل السريع للأخبار والمغرق في حرفية النقل من اللغات الأخرى حتى في مواطن اللغة العربية، وافتقار جمهرة كبيرة من العاملين في هذه المجالات إلى المهارات والأسس اللغوية وحالة الاستهتار العام واللاوعي، تسهم كلها إلى درجة كبيرة في تشويه مصادر الكلام واستنباط مسخ لغوي يحد من قدرة المرء على التعبير عن الفكر تعبيراً واضحاً وأميناً لذاته. ولعل من الأمور المؤلمة التي تعكس واقع أمة غلب عليها الجهل تلك اللافتات التي رفعها محتجون متظاهرون في بقعة كبيرة من العالم العربي تقول: "كفانا تعذيب". ولم أجد واحداُ في تلك الجموع الغفيرة يلفت نظرهم إلى هذا الخطأ اللغوي ويقول لهم: "كفاكم باللغة تغريباً"! أو لعله لم يجرؤ على ذلك خشية أن يعملوا فيه ضرباً وتنكيلاً ويسومونه أنواع العذاب! 

ولا شك أن مهنة الترجمة تفتقر إلى منهجية واضحة، لا في العربية فحسب وإنما في لغات العالم قاطبة. وما يزال العالم، بمختلف مستوياته الرسمية والفكرية وغيرها، ينظر إلى الترجمة على أنها عملية نقل بسيطة من لغة إلى أخرى. وتصميم المناشير الأميركية خير دليل على ذلك. فرغم الكتب والمنشورات التي ما انفكت تصدر من هنا وهناك من أسماء لامعة وشخصيات بارزة، فإن غياب منهجية محددة وواعية ما يزال معضلة رئيسة في الترجمة. وما تزال الترجمة تتسبب في مشكلات كثيرة وتحدث أزمات خطيرة وتزيد من الهوة والتباعد بين الشعوب والأمم.  

لقد صنفت فرجينيا ساتر ، عالمة النفس الشهيرة، البشر في خمسة أصناف: (1) اللوامون ، و(2) الإمّعة (الذين إذا خلوا إلى شياطينهم) ، و(3) المساوون (ومن ساواك بنفسه ما ظلم) ، و(4) المنطقيون، و(5) المُلْهُون. إذ توجد هذه الأصناف في كل مجموعة من البشر بنسب متفاوتة. وقدّرت ساتر نسبة اللوامين بـ  30 بالمئة ، والإمعة بـ 50 بالمئة ، والمساوين بـ 4.5 بالمئة ، والمنطقيين بـ 15 بالمئة، والمُلهون بأقل من 1 بالمئة. فإذا طبقنا هذه التصنيفات على الحضارات والشعوب المختلفة وجدنا أن اللوامين نسبة عالية في المجتمعات العربية. لذا كثر الحديث عن انتشار نظرية المؤامرة في العالم العربي، وكثر المروجون لها. فما كاد الرئيس الأميركي يتفوه بكلمة (crusade) في موضوع ساقته إليه فظاعة الحدث حتى تدافع الجميع إلى إدانته واتهامه بتعمد الإساءة إلى العربي والمسلمين. ثم راح من بعد ذلك المحللون النفسيون العرب والشرقيون، الذين تلقوا علمهم وتدريبهم في جامعات أميركا وأوروبا والاتحاد السوفياتي المنهار، يطبقون نظريات فرويد ويونغ وغيرهما، فلم يقبلوا تعليل الإدارة الأميركية.   

يحكى أن رجلاً كان يدخل ردهة مطار ملبورن الدولي عقب أحداث الحادي عشر من أيلول فسمع شلة من العمال العرب يتحادثون ويحللون الحدث ، فإذا بأحدهم يقول بصوت عالٍ وبلهجة بيروتية قديمة :"ولك هني عاملينا خيي، هني عاملينا"! ولعل هذا المشهد يجسد الحالة النفسية عند معظم العرب إن لم نقل كلهم. فنحن لوامون لا نقبل مسؤولية أعمالنا ونبحث عمن نلومه ونحمله مسؤولية اضطرابنا الفكري ومفارقاتنا النفسية والخلل الضارب في أعماق مجتمعاتنا، ولا نقف لحظة واحدة لنحاسب أنفسنا على سوءة أعمالنا.  

ولا ريب أن من أخطر الأمور في عصرنا هذا تبوء جهلة مناصب حساسة في التربية والتعليم والترجمة والإعلام، وحيثما كان لهم أثر في تنشئة الأجيال وتوجيهها. والأخطر من ذلك إصرار هؤلاء الجهلة على جهلهم، وتكريس الخطأ بالخطأ. وقد ضرب الله على قلوبهم وعقولهم.  والأشد خطراً وإيلاماً سكوت أهل العلم والمسؤولية عنهم. ومنهم من لا يتورع، بمعلوماته اللغوية الضحلة ومعرفته المجزوءة ومنهجه الحرفي الغبي في تحليل المصطلحات واللغات، سواء أكانت تلك عربية أم إنجليزية أم فرنسية، واندهاشه وانبهاره بكل ما هو أجنبي، عن اتهام اللغة العربية بالعجز والقصور ونعتها بعدم قدرتها على مواكبة الحضارة والتقنية، فيخلط خلطاً أحمق بين الطرائق المختلفة التي تعتمدها اللغات ومظهراً جهلاً كبيراً بأثر الاستعمار التقني على لغات العالم عبر العولمة والتقنية ذات المنظور الأحادي اللغة الحضارة (technologically imperialist languages)، وليس التخلف اللغوي تقنياً كما يدعي، في مجالات لغوية وتطبيقات تقنية كثيرة، نذكر منها اضطرار بعض بلدان المشرق العربي إلى اعتماد الأرقام الغبارية رسمياً لعجز التقنيات عن التكيف معها وليس العكس. فبرروا ذلك لأنها أرقام عربية الأصل، ولنا هنا وقفة أخرى. فإذا به يلوم اللغة ولا يلوم عجزه عن معرفته بلغته. فيطلق الأحكام بل يقدم النصيحة والمشورة لرجال الأعمال والسياسة. وما خاب من استشار. ولكن الخيبة واقعة لا محالة إذا كان المستشار غبياً أحمق وكان المستشير جاهلاً ومستكبرا!  

لقد صنف العرب السالفون الناس في أربعة: رجل لا يعرف ولا يعرف أنه لا يعرف، فهو الأحمق بعينه، فاجتنبوه. ورجل لا يعرف ويعرف أنه لا يعرف فهو الجاهل، فعلموه. ورجل يعرف ولا يعرف أنه يعرف، فهو النائم ، فأيقظوه. ورجل يعرف ويعرف أنه يعرف، فهو العاقل، فاتبعوه. وكم ينطبق الصنف الأول على السواد الأعظم من المترجمين والمسترجمين العرب. ولكن من المؤسف أن العرب ارتأوا أن يسيروا خلفهم فإذا بهم كالأعمى يقود الأعمى إلى شفير الهاوية. وقد رأى الصينيون الترجمة أقرب إلى تناول طعام مضغه غيرك. فكيف إذا كان الذي مضغ طعامك مريضاً بألف علة وعلة؟ فهل تبقى لك شهية؟   

لقد كتب فرانسيس بيكون يقول:"لا شيء يزيد من شكوك الإنسان وظنونه أكثر من العلم القليل. لذا وجب على الإنسان أن يعالج ظنونه بتحصيل العلم." وقال الرسول الأعظم: "اطلبوا العلم ولو في الصين". فقليل من العلم أمر خطر. ويزعم أن أول من قال هذا المثل هو الشاعر الإنجليزي ألكسندر بوب. ولكن ليت العرب عملوا بما كان ينصح به السلف الصالح منهم. ورب ضارة نافعة.


    

[1]   السَرَسُ: متلازمة الالتهاب الرئوي الحاد (Severe Acute Respiratory Syndrome). وهي مشتقة من سَرِسَ إِذا ساء خُلُقُه وسَرِسَ إِذا عَقَل وحَزَمَ بعد جَهْلٍ.  

[2]   يمكن ترجمته بـ  It is better to give than to receive ..

[3]    انظر الحديث 531 ، الصفحة 311 من رياض الصالحين ، الترجمة الإنجليزية ، الجزء الأول ، ترجمة مدني عباسي ، كراتشي ، باكستان (1983).

[4]   ثمة من يتفلسف في تفسير هذا الحديث فيطلقه على كل شيء. ولكن بقية الحديث واضحة: واليد العليا هي المُنفِعة ، والسفلى هي السائلة.

[5]    انظر  "الترجمـة العربية بين الاختلاق والحضارة الزائفة: إشكالية التوطين والمحاكيات الحضارية" للمؤلف.

[6] Brockmann, R. J. and Sinatra, S. (1995). How the Iterative Process Helped the Allies Win the Persian Gulf War. STC Intercom, Vol. 42, No 9, November, 1995.

 [7]  شاع عند العرب المحدثين استعمال اللفظ كاريكاتور المعرب من اللفظ الفرنسي (caricature)، وهو التصوير أو الرسم الهزلي. وهي مأخوذة من الإيطالية (caricatura) المشتقة من اللاتينية المتأخرة (carricare)، بمعنى المبالغة. ومن معاني اللفظ العربي (كركر) المبالغة في الضحك، من كَرْكَرَ يُكَرْكِرُ كَرْكَرَةً : في الضحك: أغرب فيه. فبدلاً من استعمال رسم كاريكاتوري (بتضخيم الواو أو تخفيفها) أليس من الأجدر استعمل اللفظ العربي الحسن (رسم كَرْكَرِي). فهاتان الكلمتان تشتركان في قدر من التشابه الصوتي والمعنوي. ولكن العرب المعاصرين ينزعون إلى تبني ما هو أجنبي الصوت والصورة ويعوزهم الالتزام الجاد بلغتهم.    

[10]    انظر دليل المترجم للمؤلف، من  منشورات رايتسكوب، ملبورن، 2001.

[11]   أديب مروة. الصحافة العربية: نشأتها وتطورها، بيروت 1961.

 


 

* أستاذ الترجمة والتواصل التقني والحضاري في جامعات ملبورن ـ أستراليا، ومؤلف وكاتب تقني

 

 

 



Copyright © 2004 Ali Darwish.
All rights reserved. No part of the contents of this document may be copied, reproduced, or stored in any retrieval system, without the express permission of the author.

Please direct all comments on this page to Ali Darwish.

Back to Home Page